أفكار ومواقفرأي في حياتنا

استبداد الناس بالناس!

لا شيء يفزع الناس كفزعهم من بعضهم.
ذلك أنه تاريخياً، أقام الناس شأناً كبيراً لآراء الآخرين، وكلامهم، وردّات فعلهم.
وفي المقابل لم يكن الشارع رحيماً ببعضه.
ولم تقلّ سطوة وسلطة الناس على بعضهم، وتجاه بعضهم، عن سطوة الجهات الناظمة أو الحاكمة في المجتمعات.
وفي المجتمعات العربية تحديداً، تعقَّدت القصة. فالجمعُ يتذمر من سطوة الحكومات وأدواتها، لكن الجمع ذاته حين يخلو إلى بعضه يكون أكثر قسوة واضطهاداً لأفراده. حتى صار الناس يخافون من الخطوط الحمراء التي يضعونها هم لبعضهم، ويهجسون بها أكثر من الخطوط الحمراء الرسمية!
‏وهنا لا يقلّ الشارعُ العربي ديكتاتورية عن الحاكم!
فالاستبداد فطرةٌ، من طباع العربي، وقانونه هنا ما قاله الشاعر عمرو بن أبي ربيعة “إنما العاجز من لا يستبدّ”!
وبعد موسم الربيع العربي، الذي يفترض أنّه موسم حريّات، وأن يتنفس الناس بعد طول اختناق، يشيع في الشارع العربي نوع أكثر رهبة من الاستبداد؛ هو استبداد المواطن بنفسه، واستبداد الناس بالناس!
حتى بدا تعريفنا للرأي الآخر كما لو أنه رأينا نفسه على أن يقوله أو يردّده شخص آخر!
وحتى إن مواطناً قد يقمع آخر وهما، كلاهما، في الطريق لمظاهرة تطالب بالحريات!
وهذا ليس جديداً في الشارع العربي، فلطالما خاف الشاعر والمفكر والروائي والرسام والمصور والمغني والراقصة من الناس، ومن محاكماتهم الأخلاقية، أكثر مما خافوا من الرقيب الرسمي أو من المؤسسة الرسمية.
ويبدو نشازاً وشديد المفارقة، حين يخرج الناس للمطالبة بحرياتهم، فيحملون بعض “الثوار” على أكتافهم إلى المنصة، أو إلى مقدمة الناس، في مشروع لتربية ديكتاتوريين جدد، وتخصيب استبداد جديد.
وإذا لم يكن الناس متقبلين للنقد وهم في موقعهم كمواطنين فهل سيقبلونه حين يصير واحدهم على سدّة الحكم؟!
هذا كله يدخل في ثقافة الاستبداد التي كان الحاكم يمارسها على شعبه، والمواطن يمارسها على زوجته، والأولاد على شقيقاتهم البنات، والمعلم على تلاميذه، والمدير على موظفيه، ويمارسها الإمام الذي يخاطب المُصلّين بفوقية من مَلَك العلم وحده!
وفي طريقها للتظاهر ضد الحاكمية لم تنتبه تظاهرات الربيع العربي لهذه الثقافة، ولم تحاول التخلص منها.
فالذين ناموا لشهور طويلة في ميادين التحرير العربية هنا أو هناك، ليسوا مُنزَّهين بالضرورة لمجرد أنهم ضحايا، فهم من طينة هذه الشعوب التي أنجبت حكامها من أسر فقيرة وكادحة أحياناً، وهؤلاء المتظاهرون والمحتجون والذين استشهدوا أيضاً لو تسلموا الحكم فربما لن يختلفوا كثيراً عن الحاكم المستبد، وهذا ليس انتقاصاً من شأنهم بالطبع، ولا إساءة للثورات أو انتقاصاً من ضرورتها التاريخية، ولكن لأن هذه هي ثقافتنا العربية وهذا هو موروثنا، وتراثنا، و”جيناتنا” في الحكم والسلطة!
فالثورة الحقيقية، والمطلوبة، هي ثورة وعي، وتغيير ثقافي، ونهوض معرفي، وليست مجرد استبدال حاكم بآخر جديد سيُعيّرهُ الشاعر بعجزه إن لم يستبدّ!
علينا أن نفهم كلنا ذلك حتى لا ترتفع في كل عواصمنا تلك اليافطة البليغة والمشبعة بالخيبة التي رأيتها مرّة في شوارع تونس: “قبل الثورة كل شي ممنوع.. بعد الثورة كل شي حرام”!

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock