استسلام ترامب لمشيئة أردوغان يدمر مصداقية الولايات المتحدة

Untitled-1
Untitled-1

إريك إدلمان، أيكان إرديمير* - (فورين بوليسي) 8/10/2019

ترجمة: علاء الدين أبو زينة

اضافة اعلان

التاريخ يعيد نفسه، كما كتب كارل ماركس ذات مرة، "في المرة الأولى كمأساة، وفي الثانية كملهاة". وفي عودة هزلية إلى الفوضى التي كانت قد نتجت عن مكالمة هاتفية أجريت في كانون الأول (ديسمبر) 2018 بين الرئيسين الأميركي والتركي، قام دونالد ترامب مرة أخرى بإعلان انسحاب للقوات الأميركية من شمال شرق سورية، مُرسلاً كامل مؤسسة السياسة في واشنطن إلى وضع محاولة السيطرة على الأضرار.
ومن أجل إثبات أنه لم يعمل تحت ضغط من رجل تركيا الإسلامي القوي أو أنه خضع لمطالبه، قام ترامب بعد ذلك بإرسال تغريدات تحمل تهديدات بـ"تدمير الاقتصاد التركي بالكامل والقضاء عليه"، مردداً صدى تغريدته عن "تدمير تركيا اقتصادياً" في المرة الأخيرة. لكن الشيء الوحيد الذي يبدو أنه دمره حتى الآن كان مصداقية الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وما وراءه.
تعطي الخطوة الأخيرة التي قام بها ترامب مكافأة لبلد شريك في "الناتو" على تصرفه ذلك البلد بشكل سيئ، كما فعل مرات عدة من قبل عند التعامل مع تركيا. وقد احتجزت حكومة رجب طيب أردوغان مواطنين أميركيين وموظفين من وزارة الخارجية كرهائن، وساعدت إيران على التهرب من العقوبات الأميركية في ذروة جهود واشنطن لإحباط طموحات طهران النووية بين العامين 2012 و2014، كما اشترت مؤخراً نظام الدفاع الجوي روسي الصنع من طراز S-400 على الرغم من التحذيرات المتكررة من القيام بذلك.
حتى الآن، أفلت أردوغان بكل أفعاله بأعجوبة، من دون مواجهة أي رد فعل دبلوماسي كبير، أو عقوبات أو غرامات من الولايات المتحدة، بسبب تساهل لا يمكن تفسيره والذي يُكذب حديث ترامب المتخذ مظهر الصرامة. وحتى عندما كان الرئيس الأميركي يعزز شعور نظيره التركي بالحصانة والإفلات من العقاب، فإنه كان يبيع أيضاً حفاء أميركا في قوات سورية الديمقراطية، التي تضم الأكراد السوريين، والعرب، والمسيحيين السريان، واليزيديين الذين كانوا شركاء رئيسيين في إلحاق الهزيمة بتنظيم "داعش"، وضحوا بأكثر من 11.000 من جنودهم في هذا الجهد.
يهدد عمل ترامب المتسرع بتقويض جميع المكاسب التي حققتها قوات العمليات الخاصة الأميركية وشركاؤها من قوات سورية الديمقراطية بعد إلحاق الهزيمة بتنظيم "داعش". وقد حذر تقرير حديث للمفتش العام لوزارة الدفاع الأميركية من أن التنظيم "عزز قدراته المسلحة في العراق وكان يعاود الانبعاث في سورية". وهناك تقارير موثوقة أخرى تتحدث عن جهود التنظيم "لسد النقص في صفوفه الناجم عن أعضائه المحتجزين في مرافق الاعتقال".
وبالنظر إلى أن هؤلاء المعتقلين الإرهابيين منتشرون في عدد من المرافق، التي يقع بعضها في عمق الأراضي السورية، فإنه لا توجد طريقة تستطيع بها القوات التركية ووكلاؤها انتزاع السيطرة على هذه المرافق من قوات سورية الديمقراطية بطريقة منظمة. وسوف تكون النتيجة المنطقية للاشتباكات التي لا مفر منها بين تركيا وقوات سورية الديمقراطية هي نشر عناصر هذه القوات من مراكز الاحتجاز إلى الخطوط الأمامية، مما سيؤدي حتماً إلى عمليات هروب جماعية من السجون والتي تساعد على انتعاش "داعش". وإذا سجل التنظيم الإرهابي عودةً، والتي تؤذِن بشن هجمات -ليس في الشرق الأوسط فحسب، وإنما في أوروبا والولايات المتحدة القارية أيضاً- فسوف يوضَع هذا كله مباشرة على عتبة ترامب.
ولن تكون العواقب الإنسانية أقل إثارة للقلق. فقد حذرت اللجنة الأميركية للحرية الدينية الدولية في تقريرها السنوي للعام 2019 من أن أي انسحاب مخطط له من شمال شرق سورية "يجب أن يتم بطريقة لا تؤثر سلباً على حقوق الأقليات الدينية والعرقية الضعيفة وبقائها"، وهي رسالة كررتها اللجنة بعد إعلان ترامب الأخير.
كان وكلاء تركيا الإسلاميون في عفرين، الذين سيطروا على المنطقة بعد العملية التركية عبر الحدود في شمال سورية في العام 2018، متورطين في العديد من انتهاكات حقوق الإنسان ضد الأقليات العرقية والدينية في المدينة -وهي انتهاكات من شبه المؤكد أنها ستتكرر في شمال شرق سورية هذه المرة أيضاً .
تشكل خطط أردوغان للهندسة الديموغرافية في المنطقة وصفة أخرى للكارثة. فقد أعلن الرئيس التركي في الجمعية العامة للأمم المتحدة أنه يعتزم توطين ما يصل إلى 3 ملايين لاجئ سوري -معظمهم من العرب- في شمال شرق سورية، كجزء من محاولة شريرة لتحويل المناطق ذات الأغلبية الكردية إلى مناطق ذات أغلبية عربية. ومن المؤكد أن يؤدي مثل هذا التلاعب الصارخ بالتوازن العرقي الإقليمي إلى تأجيج التوترات والعنف بين المجتمعات في العقود المقبلة، وإلى زرع المزيد من بذور الكراهية والعداء في منطقة تعاني مسبقاً من أكثر من نصيبها العادل من التحيزات والأحقاد والمظالم.
يمكن أن تأتي كلمة تحذير مهمة حول الدوافع الشريرة وراء خطط أردوغان في سورية من كتلة المعارضة المؤيدة للعلمانية في تركيا، والتي نجحت في هزيمة أردوغان في الانتخابات البلدية الأخيرة في أنقرة وإسطنبول. لكن تهديدات ترامب بتدمير الاقتصاد التركي والقضاء عليه أفسدت هذه الإمكانية للاستفادة من جهود المعارضة بشكل فعال.
بدلاً من ذلك، يستفيد أردوغان من تأثير طريقة "التحشيد حول العلَم" قبل التوغل العسكري المتوقع في سورية ومن تأجيج المشاعر المعادية لأميركا لتعزيز حكومة تعاني بشدة بسبب الانكماش الاقتصادي الأخير والهزيمة الانتخابية وانشقاقات بعض الشخصيات المؤسسة للحزب الحاكم. ولم يقتصر ضرر خطاب ترامب المحير ومساراته السياسية الملتوية على فرص القوى السياسية العلمانية على جانبي الحدود التركية السورية فحسب؛ وإنما يعرض الرئيس الأميركي شريان حياة للإسلامويين المحاصرين والذين يُعانون هناك.
أدى تخلي الولايات المتحدة الأخير عن حلفائها إلى تعزيز الاعتقاد السائد مُسبقاً في الشرق الأوسط وما وراءه بأن الولايات المتحدة ليست حليفاً تمكن الثقة فيه. وفي وفي حين تقدم روسيا وإيران المسرح السوري كدليل على أنهما شريكتان يمكن الاعتماد عليهما واللتين تقفان فعلاً إلى جانب حلفائهما، فإن الجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية سوف تعيد ترتيب تحالفاتها متحولة عن واشنطن ونحو موسكو وطهران كجزء من محاولة للتحوط في سياساتها الخارجية والأمنية.
لقد ألحقت تكتيكات ترامب في سورية من الضرر بالولايات المتحدة بقدر ما ألحقت منه بشركائها. وسوف تخلق رغبة ترامب في الخضوع أمام تهديدات أردوغان فراغاً ستكون موسكو وطهران راغبيتين كثيراً في ملئه، مما يلحق أضراراً دائمة بمصالح الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين. وليس هناك وقت أفضل من هذا لتذكير ترامب بأن ما هو على المحك الآن ليس مستقبل سورية وحدها فحسب، وإنما مصير المنطقة كلها ومصداقية واشنطن كحليف أيضاً.

*إريك إس إيدلمان: مستشار رفيع في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات. كان سفيرا للولايات المتحدة في تركيا من 2003 إلى 2005 ووكيل وزارة الدفاع للسياسة من 2005 إلى 2009.
*أيكان إرديمير: زميل رفيع في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات. كان عضواً في البرلمان التركي ممثلاً عن حزب الشعب الجمهوري من العام 2011 إلى العام 2015.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Trump’s Capitulation to Erdogan Destroys U.S. Credibility