علاء الدين أبو زينة
انتهت أخيرًا نهائيات كأس العالم لكرة القدم. وعلى مدى شهر تقريبًا، عاش العرب والعالم أنواعًا مختلفة من المشاعر والتفاعلات، والقراءات والرسائل. وكانت أهم خصوصيات هذه النسخة هي أنها أقيمت على أرض العرب، ممثلة في قطر.
وقد جعل ذلك بالتحديد تغطيتها الإعلامية في الغرب تبتعد في كثير من الأحيان عن إطار كرة القدم. لم يعد «المونديال» منافسة رياضية بين 32 منتخباً بقدر ما طغت عليه المنافسة الثقافية والحضارية بين العرب والغرب.
وبينما حرصت قطر على تقديم عرض مخلص للثقافة العربية، بحث إعلام الغرب عن كل سبب لتعزيز التصويرات التنميطية الاستشراقية السلبية للعرب، وإظهارهم مرة أخرى كنقيض حضاري يتعذر إصلاحه.
ركز الإعلام الغربي على ظروف العمال الوافدين الذين شاركوا في إقامة البنية التحتية المدنية والرياضية للمونديال. ولا عيب في ذلك من حيث المبدأ؛ لا ينبغي أن يعترض أحد على دعوة إلى تأمين سلامة العمال وضمان حقوقهم الإنسانية المادية.
بل إن هذه الانتقادات بالتحديد أحدثت أثرًا محمودًا حيث عدلت قطر قوانين العمل لديها وقدمت المساعدة للعمال الوافدين.
وستكون هذه التعديلات مكسبًا لقطر والوافدين معًا إذا ترسخت وتحسنت أكثر. لكن المشكلة في الدافع، حيثُ وضع الإعلام الغربي قضية العمال في إطار إثبات عدم استحقاق قطر– والعرب- لاستضافة حدث عالمي، مقارنة بالغرب المستحِق بوصفه المدافع الرسمي والوحيد عن حقوق الإنسان التي يجلّها ويحفظها بالرموش.
يصدر هذا النقد عن دعائيي المراكز الاستعمارية التي لم تكتفِ بتشغيل الملايين من سكان العالَم المستعمر بالسخرة وتحت أبشع الظروف وأقصى الاستغلال، وإنما التي استعبدت الناس –حرفيًا- وباعتهم واشترتهم.
وما تزال السياسات الرسمية لتلك المراكز الإمبريالية تفعل كل شيء لإبقاء العالم الفقير والضعيف فقيراً وضعيفاً، ودعم وإدامة الأنظمة والنخب الأنانية التابعة لإخضاع مواطنيها بالنيابة، وإعدام كل الشروط التي تسمح للناس بالتطور والاحتجاج والتعبير عن حاجاتهم والمطالبة بحقوقهم وحصصهم من ثروات بلادهم.
تعلق الانتقاد الغربي الثاني بحظر قطر شارات دعم مجتمع «الميم» وشرب الخمور في الملاعب. وفي الحقيقة، لو أن قطر سمحت برفع أعلام المثليين وشاراتهم لتعرضت لنقد هائل من أهل المنطقة التي أرادت تمثيلهم.
وسوف يقال إن البلد جعل نفسه والمناسبة منصة لترويج أفكار تتعارض مع قيم المنطقة وثقافتها، بما ينسف فكرة تمثيل وعرض المنطقة بقيمها وخصوصياتها كما هي.
ولم يُذكر في النقاش مساعي دول غربية إلى إقرار تشريعات تحظر إظهار رموز الثقافة المختلفة، مثل ارتداء المسلمات أشكالًا من الزي الإسلامي في أماكنها العامة، وتلزم المقيمين فيها والمهاجرين إليها بتقبل قيمها والتكيف مع ثقافاتها وتطبيق قوانيها.
وبالنسبة للكحول، التي سمحت قطر بشربها في أماكن غير الملاعب، يمكن تصور ما قد يفعله مشجعون متحمسون مخمورون من فوضى في الملاعب.
ويتم في بريطانيا، مثلاً، إغلاق الحانات حول الملاعب التي تجري فيها مباريات قبل وقت من بدء المباراة لتوفير الأمن.
وفي محاولة تشويه ثيمة العروبة في المونديال، نشرت مجلة «الإيكونوميست» تقريراً أخفى السم في الدسم.
وكتبت عن احتفاء العرب بإنجازات المنتخب المغربي: «معظم لاعبي المنتخب المغربي المكون من 26 لاعبًا ولدوا في الخارج.
نشأ أشرف حكيمي في مدريد لأبوين مغربيين فقيرين… الآن أنشأ المغرب فريقه الخاص من اللاعبين ذوي الهويات المعقدة».
وأضافت: «أما بالنسبة لعروبة المغرب، فكان ذلك موضوع نقاش في المقاهي ومناطق المشجعين وعلى وسائل التواصل الاجتماعي.
يعرِّف العديد من المغاربة أنفسهم على أنهم عرب، وتم الاحتفال بانتصارهم في جميع أنحاء المنطقة. ومع ذلك، فإن بعض المغاربة غير مرتاحين لهذه التسمية.
فالأكثرية (وربما الأغلبية) من أصل بربري، ويمكن أن تعني العروبة محو هويتهم». وتكتب أيضاً: «يلعب التحيز دوره. اللهجة المغربية، المعروفة باسم «الدارجة»، يسخر منها الناطقون باللغة العربية الأخرى على نطاق واسع لصعوبة فهمها. وغالبا ما تتعرض النساء المغربيات للإهانة بشكل فظ باعتبار أنهن… (وصف لا يحسن ذكره)».
لا تخفى نوايا الإفساد والدس في هذا العرض. وكذلك هو حال عنوان صحيفة «التلغراف» البريطانية، الذي وصف ارتداء ليونيل ميسي العباءة العربية بأنه «الفعل الغريب الذي دمر أعظم لحظة في تاريخ كرة القدم».
وإذا كان ثمة فكرة في هذا المقاربات، فهي تأكيد أن الغرب يفرز العرب كوحدة منمطة حين يريد أن يستهدفهم بهذه الصفة، بينما يرفض في الوقت نفسه أي ممارسة توحدهم فعليًا وتظهرهم كأمة صاحبة قدرات وإمكانيات.
وهو ما يفترض، موضوعيًا، أن يدرك العرب أهمية خوض صراعهم الثقافي والسياسي مع الذين يُعرّفون أنفسهم كنقيض متحدين في الخطاب والممارسة.
المقال السابق للكاتب: