اقتراح ترامب الاقتصادي فرصةٌ متخفية

Untitled-1
Untitled-1
عمر رحمن* - (معهد بروكينغز) 26/6/2019 منحت إدارة ترامب القيادة الفلسطينية فرصة نادرة. ففي التحضيرات المؤدّية إلى ورشة "السلام من أجل الازدهار" التي أقيمت في البحرين يومي 25 و26 حزيران (يونيو)، طرح البيت الأبيض اقتراحاته للتنمية الاقتصادية في الضفة الغربية وقطاع غزة؛ حيث يمارس الفلسطينيون حكماً ذاتياً محدوداً. ويضم المستند، المؤلّف من 40 صفحة مع ملحقٍ بقائمة بالمشاريع، الكثير من التطلّعات والقليل من التفاصيل، ويتميز بانفصال كامل عن الواقع على الأرض. لكنّه في المقابل يقدّم فرصة لإثبات صحّة ادّعاءات الفلسطينيين بأنّ الإدارة الأميركية عازمة على انتزاع حقوقهم السياسية والسير في وجهة جديدة عبر اقتراح بديلهم الواقعي المقبول الخاص. لدى الفلسطينيين جميع التبريرات والأسباب للتشكيك في نوايا إدارة ترامب. فعلى مدى السنتين ونصف السنة الماضية، اتّخذ البيت الأبيض سلسلة من الخطوات التي تهدف مباشرة إلى إضعاف المؤسّسات الفلسطينية والضغط على القيادة الفلسطينية. بالإضافة إلى وقف تمويل السلطة الفلسطينية، أوقفت الإدارة الأميركية تمويل المشاريع التنموية والإنسانية في الوقت نفسه الذي ألحّت فيه على الحاجة إلى تنمية اقتصادية وحلول إنسانية. وابتعد الفريق المسؤول عن التوصل إلى خطّة للسلام؛ أي كبير مستشاري البيت الأبيض جاريد كوشنر والسفير الأميركي في إسرائيل دافيد فريدمان ومبعوث الشرق الأوسط جايسون غرينبلات، عن عقودٍ من السياسات الأميركية حيال وضع الأراضي المحتلة، ومن بينها القدس الشرقية ومرتفعات الجولان، وهدف الوصول إلى حلّ الدولتَين. في خضمّ الكثير من التشكيك في ما تعرف بـ"صفقة القرن" التي طرحها ترامب، فضلاً عن الاضطراب في السياسة الإسرائيلية، قرّر الفريق الذي يقوده كوشنر وضع المكوّن السياسي في خطتهم جانباً حتّى وقت آخر، وطرح القسم الاقتصادي بشكل مستقلّ. وفيما يُعد الفصل بين الاقتصاد والسياسة في حدّ ذاته عملاً مريباً، زادت هذه الخطوة من شكوك الفلسطينيين في أنّ نوايا إدارة ترامب سيئة بخصوص مستقبلهم السياسي. مسبقاً وبشكل فاضح، لم يرد أبداً أي ذكر لكيان وطني فلسطيني في المستند. ولا تظهر كلمة "دولة" سوى في عبارة "الدول المجاورة"، وحتى كلمة "وطني" لا تظهر سوى مرّة واحدة لوصف مصر ولبنان والأردن. وفي حين قد لا يرغب كوشنر أن يتم الحكم مسبقاً على النتيجة السياسية، يبيّن هذا الأمر المدى الذي وصلت إليه الإدارة في حذف كلّ ما له علاقة بالسياسة من المستند. ولا تهدف التنمية الاقتصادية المقترحة سوى الوصول إلى "مجتمع حيوي"، خالٍ على ما يبدو من التطلّعات الوطنية. بالإضافة إلى افتقار المستند إلى مستقبل سياسي، فإنه يفتقر حتى إلى حاضر سياسي، وكأنّ التنمية الاقتصادية ستجري في فراغ. وعلى سبيل المثال، لم يرِد أيّ ذكر للاحتلال العسكري الإسرائيلي، ولا أيّ إشارة مباشرة إلى السلطة الفلسطينية أو حماس. ولا تُذكر إسرائيل سوى كجزء من الدول المجاورة، على الرغم من سيبدو واضحاً من خلال القراءة بين السطور أنّ إسرائيل ستبقى مُتحكّمة بحياة الفلسطينيين والاقتصاد الفلسطيني. فكيف يمكن تطبيق خطّة كهذه بينما لا يتمّ الاعتراف حتى بالوقائع السياسية الأساسية؟ يرحّب الفلسطينيون كلّهم بالتنمية الاقتصادية، بمن فيهم السلطة الفلسطينية. لكنّهم يدركون أنّ هذه التنمية لا يمكن أن تحصل بمعزل عن تراجع متزامن للاحتلال ولعمليات الاستيطان الإسرائيلية. وحتّى فكرة أنّ التقدّم في إحدى الناحيتين سيؤمّن زخماً للناحية الأخرى ليست في موضعها الصحيح. ففي العام 2009، طرح رئيس وزراء السلطة الفلسطينية في ذلك الحين، سلام فياض، مشروع بناء دولة مدته عامان بهدف دعم مؤسّسات الحوكمة تحضيراً لإنشاء دولة. وفشل هذا المشروع لهذا السبب بالضبط، ليس لأنّ الجهود لم تفلِح، وإنما لأنّه لم يترافق بأيّ تغيير في وضع الاحتلال. ومن دون أيّ خطوة ملموسة نحو إنشاء الدولة، أصبحت المحافظة على التقدّم في بناء المؤسسات مستحيلة. وبدا الأمر وكأنّ السلطة الفلسطينية تعمل لصالح الاحتلال عوضاً عن العمل ضدّه. وعلى مدى الأعوام الخمسة والعشرين الماضية، أُغدقت مليارات الدولارات على الأراضي المحتلة بشكل مساعدات تنموية وإنسانية، لكنّ الاقتصاد تحرك في الواقع في الاتجاه المعاكس. ويُعزى ذلك إلى أنّ الاحتلال لا يعيق التنمية الاقتصادية الفلسطينية ببساطة فحسب، وإنما يقوّضها بنشاط ويوجّه النمو نحو الاقتصاد الإسرائيلي. وبحسب الاقتصادي الإسرائيلي شير هيفر، يُقدَّر أنّ المطاف ينتهي بتحو 72 في المائة من المساعدات الدولية للفلسطينيين في الاقتصاد الإسرائيلي. والالتفاف حول الاحتلال بغية تقديم المساعدة التنموية مهمة مستحيلة. في الرد على المستند الاقتصادي الذي طرحه البيت الأبيض، رفضه محمود عباس على الفور، وقال: "بما أن الحلّ السياسي غائب، فإننا لا نتعاطى مع أيّ حلّ اقتصادي". ويشعر عباّس بأنّه يتعرّض للهجوم، ولذلك من الواضح أن كلامه دفاعي، لكنه لا يملك استراتيجية واضحة سوى أن يرفض ما يُعرض عليه. لا شكّ في أنّ الفلسطينيين في وضع صعب. فقد أنهى عبّاس العلاقات مع الولايات المتحدة منذ 18 شهراً بعد صدور القرار بنقل السفارة الأميركية في إسرائيل إلى القدس والاعتراف بالمدينة عاصمة لإسرائيل. وليس قطْع العلاقات مع الولايات المتحدة في أي يوم من الأيام فكرةً سديدة. فما تزال لدى الإدارة الأميركية الكثير من الأدوات المتاحة لمعاقبة الفلسطينيين. بيد أنّ ذلك لا يعني أن عليهم الوقوف مكتوفي الأيدي أمام المبادرات السياسية التي تطرحها واشنطن. على الرغم من الضرر الذي يحدثه ترامب، فإنه يحدث تغييرات في الأوضاع. وهذا يولّد الفرص حتّى لو لم تكن المعطيات في صالح الفلسطينيين. ويمكن أن تبدأ هذه الفرص من الاقتراح الاقتصادي. فعوضاً عن رفضه على الفور، ينبغي على القيادة الفلسطينية أن تكرّر بكثافة في الإعلام أنها تودّ أن تقبل بهذه الرؤية الاقتصادية في سياق الحصول على حقوق سياسية كاملة، سواء في دولة خاصة بالفلسطينيين أم ضمن دولة علمانية ثنائية القومية. لكن الفلسطينيين يريدون، على غرار المواطنين في الولايات المتحدة وإسرائيل، حقّ التصويت وانتخاب القادة الذين يحكمون حياتهم، ويرفضون العيش كأتباع دائمين تحت هيمنة قوّة أجنبية. وما من مساعدات تنموية يمكن أن تكفي لاستبدال هذا الحقّ. بينما لا تحتاج السلطة الفلسطينية إلى الانخراط مباشرة مع هذه الإدارة، فإنها لا يجب أن تعترض على حضور الآخرين المؤتمر، لا بل فليتعهّدوا بالتبرّع بالمال، فما من ضرر في ذلك، لأنّ تلقّي تنمية اقتصادية ليس مشترطاً ضمنياً بإبطال حقوق الفلسطينيين. ولكن، إذا حاولت الإدارة الأميركية أن تجعلها مرهونة بهذا الأمر بعد تلقّي التنمية، بعد أن تُطرح الأموال على الطاولة، فستكشف بذلك عن نفاق عملها وطابعه الاستغلالي. وبعدها يمكن أن يقول كوشنر: "عذراً، لا يمكنكم الحصول على هذا المال من أجل التنمية الاقتصادية ما لم تخسروا حقوقكم السياسية". وثمة فرص أخرى أيضاً. فالإدارة تقوّض مصداقية الولايات المتحدة لدى الكثير من حلفائها، ولا سيما في أوروبا، وتقضي على ما تبقّى من عملية السلام. وينبغي أن يعطي ذلك الفلسطينيين شعوراً بالتحرّر. فقد حدّت عملية السلام من قدرة الفلسطينيين على المناورة، على الرغم من جميع محاسنها. وفي كل مرّة حاولوا الاستفادة من مواردهم المحدودة للضغط على إسرائيل، أعيد وضعهم عند حدّهم وقيل لهم إنّ طاولة المفاوضات هي المكان المناسب لمعالجة الشكاوى. الآن، قد يكون بإمكانهم إقناع الأوروبيين بأنّه ينبغي وضع ضغط أكبر على إسرائيل. وينبغي عليهم إطلاق حملة عالمية تعتمد خطاباً يتمحور حول الحقوق. فالناس حول العالم قادرون على فهم المطالب بنيل الحقوق الإنسانية والسياسية الأساسية أكثر بكثير من قدرتهم على فهم تعقيدات مسائل الوضع النهائي وتبادلات الأراضي وحدود العام 1967 وتفاصيل سيادة الدولة. ويستطيع الفلسطينيون الذهاب أبعد من ذلك واستغلال هذه اللحظة لعرض خطّة سلام فلسطينية تجمع التنمية الاقتصادية مع أهداف سياسية واضحة قابلة للتطبيق، فيرى العالم عندئذ أنّ الفلسطينيين ليسوا مجرّد رفضويين، وإنما لديهم مطالب محقّة لن يتخلّوا عنها مقابل المال. *زميل زائر في مركز بروكينغز الدوحة.اضافة اعلان