الأب المغترب.. شخصية غائبة تحضر عبر أسلاك الهاتف

الأب المغترب.. شخصية غائبة تحضر عبر أسلاك الهاتف
الأب المغترب.. شخصية غائبة تحضر عبر أسلاك الهاتف

أمهات يشكين تضاعف المسؤوليات في غياب أزواجهن

 

نسرين منصور

    عمان - لم يمض على زواجهما أكثر من أربعة أعوام. وعند قدوم اللحظة التي تنتظرها كل فتاة في أن تصبح أما، لحظة ولادة طفلها الأول، لم يكن بجانبها ولم يوصلها إلى المستشفى، بل كان يكتفي بالاطمئنان عليها من خلال المكالمات الهاتفية. السبب ليس اللامبالاة التي يتصف بها زوجها أو انشغاله بعمله، وإنما لأنه مسافر للعمل في دولة أخرى، بعيداً عن زوجته وبيته وطفله الرضيع.

اضافة اعلان

وتقول آمال سليمان (28 عاماً) بحرقة ظاهرة: "تضايقت كثيراً لعدم استطاعة زوجي حضور ولادة طفلنا الأول الذي أصبح عمره الآن ثمانية شهور. ولكني أحاول قدر المستطاع تفهم ظروف زوجي ومشاكله وعدم إثقال كاهله بمزيد من المسؤوليات أو الأحداث التي يمكن أن تحلها الزوجة دون وجود الزوج".

هل الأب ضحية للظروف الاقتصادية التي تعاني منها بعض الأسر؟ وما التأثيرات السلبية التي تترتب حين يغيب الأب عن الأسرة ويتحول إلى ضيف لأيام وأسابيع قليلة في البيت؟ ومن الذي يجب أن يتولى مراقبة الأبناء وتربيتهم والوقوف على مشاكلهم ومتابعتها أولا بأول؟

تقول آمال: "يجب تواجد الأب في البيت للمحافظة على الأسرة، وذلك لدور الأب المعروف عنه بأنه يتمتع بمكانة نفسية تتصف بالسيطرة والسلطة والضبط والربط داخل الأسرة، ولذلك من الصعب أن تلعب الأم دورها ودور الأب معاً، وإذا أهمل الأخير أسرته وتهاون في رعايتها يحدث خلل نفسي عند أفراد الأسرة الذين يشعرون أنهم يعيشون في جو غير مستقر يمكن أن يؤدي إلى التفكك الأسري".

ما يزيد معاناة آمال بأنها امرأة عاملة، ومطلوب منها متابعة عملها بجانب العناية بطفلها الصغير، بالإضافة إلى القيام بكافة الأعباء المنزلية التقليدية، وكذلك المستلزمات ومتطلبات البيت، مثل دفع الفواتير أو شراء الأغراض والبقالة. وتشير آمال إلى أن "مسؤولية الأم تصبح مضاعفة وتتحول من أم إلى أب ومدير مالي وعلاقات عامة ومسؤول اجتماعي".

وبالرغم من قدوم زوجها كل ثلاثة أشهر لرؤيتها والجلوس معها، إلا أن الفترة غير كافية بالنسبة له. فهو يأتي ضيفاً يريد أن يعرف كل التفاصيل التي حدثت مع زوجته وتطورات حياة طفله في أشهره الأولى.

   وتحاول آمال جعل الفترة التي يقضيها زوجها في البيت أن تكون جميلة ومريحة لكلا الطرفين وتبتعد فيه قدر الامكان عن المناقشات الساخنة لتجنب افتعال المشاكل. تقول: "إنه يأتي لاسبوعين فقط، ومن غير المعقول أن أنكد عليه".

   وتشكو نهاد علي (45 عاماً) من حجم المسؤولية الملقاة على عاتقها بسبب غياب زوجها عن البيت لعمله في السعودية. تقول: "أنا المسؤولة عن كل شيء في البيت، وأقوم بكل شيء بمفردي بدءاً من تربية الأبناء ومتابعة تقدمهم المدرسي، وترتيب البيت وانتهاءً بالأعباء الجديدة التي ترتبت علي بسبب غياب زوجي مثل دفع الايجارات والفواتير وترخيص السيارات وتصليحها أو الأمور المتعلقة بالبنوك والحوالات".

وتعبر حالة نهاد عن معاناة عدد من النساء اللواتي لا يتواجد أزواجهن في البيت بسبب العمل خارجاً، وتواصل شكواها قائلة إن "إلقاء مسؤولية البيت بكامله على المرأة أمر ثقيل ومتعب ويرفع الضغط"، معتبرة نفسها تقوم مقام الرجل والسيدة في آن واحد، وما يزيد من ارهاق نهاد بأن لديها شاب مراهق في البيت على أبواب التوجيهي، مما يترتب عليها مسؤولية الامساك بزمام الأمور جيداًُ والتعامل معه بكل حرص وحذر لصعوبة وخطورة مرحلة المراهقة التي تعد مرحلة حرجة في العمر وتستلزم متابعة مستمرة من الأب.

وتؤكد نهاد بأن الأم مهما كانت قاسية وحازمة مع أولادها، إلا أن الأب له حضور قوي وكلمته مسموعة في البيت من قبل الأبناء أكثر من الأم، مما يجعلها أحياناً تشعر بحالة من التوتر الشديد والضغط النفسي، ولكن تواصل زوجها معها باستمرار عبر الهاتف والانترنت وكلمات الشكر البسيطة التي تصدر عنه تشعرها بالراحة والأمان.

وتعتقد نهاد بأن "غياب الأب عن الأسرة والبيت له تأثيرات سلبية، وبالرغم من أنها لا تفضل غياب زوجها وابتعاده عنهم، إلا أنها مضطرة لتحمل ذلك لتأمين نفقات ومصاريف البيت ومستقبل الأولاد ومن أجل توفير حياة كريمة لأفراد الأسرة في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة وتدني الرواتب هنا مقارنة مع الخارج". وما يخفف من شعور نهاد بالتعب وثقل المسؤولية على عاتقها بأن الوضع لن يبقى هكذا، وفي يوم من الأيام سيعود زوجها.

وعن دور الأم في هذه الحالة يبين نضال (18 عاماً) بأنه بسبب غياب والده وسفره المتكرر بحكم عمله خارج الأردن لفترات طويلة فإن والدته هي التي تتولى متابعتهم في كل شيء بداية من المذاكرة وصولا إلى شراء احتياجات المنزل وحتى ملابسهم وأغراضهم الشخصية.

ويقدر نضال وضع عائلته وظروف والدته التي تتحمل أعباء البيت كاملة، كما انه يعذر والده الذي يسعى دائماً لتوفير مصدر دخل للبيت، ولكنه يشير إلى أن "والدته هي المسؤولة عن كل التفاصيل التي تخصهم، فهي التي تعلم كل شيء عنه وعن أصدقائه ودراسته، في حين يكتفي والده، بحكم بعده عنهم، بمجرد السؤال من وقت لآخر عن أحواله بشكل عام عبر الهاتف أو الانترنت.

وهذا ما يجعل نضال يشعر بأن والده بعيد عنه ليس فقط بالمسافات بل بكل أمور حياته التي تتولاها والدته مما يجعله أحياناً يتضايق ويتمنى رجوع والده بأسرع وقت.

إلى ذلك يرى أستاذ علم الاجتماع في جامعة مؤتة د. حسين محادين بأن الأصل من وجهة نظر علم الاجتماع بأن "يقوم كل واحد من أعضاء الأسرة بدور معلوم ومحدد شرعاً واجتماعاً"، ومنوهاً إلى أن "الاستثناء هو غياب أو تخلّي أي من أعضاء هذه الأسرة عن الدور المنوط به، لكن الواقع الحياتي غالباً ما يواجه الأسرة بتحديات أحياناً تكون طارئة كابتعاد الأب مثلاً عن أسرته وذلك جزء من المهام الاقتصادية التي يفترض على الأب توفيرها لهذه الأسرة".

ويضيف د.محادين أن "هناك حالات من الابتعاد أو الغياب ليست من خيارنا، مثل وفاة الوالد مثلاً، وفي هذه الحالة يصبح التحدي أكبر أمام الزوجة كي تقوم بالدور المزدوج المطلوب أداؤه، ليس حفاظاً على الأبناء فقط، بل للحفاظ على ديمومة الأسرة وايصال رسالتها إلى المجتمع عبر تخريج أبناء يتمتعون بمتطلبات عديدة كي ينخرطوا كأعضاء في المجتمع".

ويؤكد د.محادين على أن " نجاح الزوجة في أداء المهام الاضافية على دورها الاعتيادي يكمن في درجة تأهيلها المسبق لهذا الدور، بدءاً من أسرتها التي من المفترض أن تغرس فيها بعض المتطلبات الأساسية للقيادة عبر التنشئة الاجتماعية السوية مروراً بمؤسسات المجتمع الأكبر من الأسرة".

ويشير د. محادين إلى أهمية الأسرة ودورها في استكمال وتطوير مهارات الأبناء من الجنسين بحيث يكونوا قادرين على اتخاذ القرار المناسب والنجاح في تجاوز الصعوبات الحياتية التي قد تواجه أي منهم.

وترابطاً مع ماسبق، فإنه يترتب على الزوجة دوراً مضاعفاً في غياب الزوج، وفي حالة عدم تشرب الأولى لمثل هذه الأدوار معرفة واتقاناً فإنه من المتوقع والطبيعي من وجهة نظر د.محادين أن تصطدم الزوجة بتحديات الحياة الأسرية الطارئة سواء عند مغادرة الزوج أو وفاته.

وتشير بعض الدراسات إلى أن هناك علاقة طردية بين المهارات التي تحملها الزوجة وبين قدرتها على ادارة القضايا التي تواجهها بنجاح، كما أكدت هذه الدراسات على أهمية الثقة بدور الفتاة ابتداءً كانسان والسعي إلى تدريبها عبر مواقف تعليمية من خلال الأسرة وليس انتهاءً بالزوج لأن هذه العملية مستمرة على الدوام.

ويختتم د. محادين حديثه مركزاً بالقول إن "هناك عدداً كبيراً من النساء اللواتي نجحن إلى حد بعيد في قيادة الأسرة وتحمل أعبائها لوحدها من خلال الأدوار المكتسبة التي يتعلمها الأفراد، وليس الدور البيولوجي".