الأفكار حين تطير!

ربما يأتي يوم قريب جدا، نكتشف فيه سبب تراجع الكتابة الأدبية، أو انهيار القصص الدرامية وسيناريوهات الأعمال السنيمائية، والتلفزيونية والإذاعية. الدراما العربية بشكل عام هي في أسوأ حالاتها هذه السنوات. ويستحيل أن لا يكون السبب مرتبطا بانتشار سوق السوشال ميديا؛ محرقة الأفكار والأحاسيس والتوقعات المقبلة! نعم، فببساطة أي عمل فني وأدبي يقوم بالأساس على فكرة، قصة، تجربة، شعور، ذكرى، وخيال بطبيعة الحال. لقد كان الكتاب قبل انهيار عصر الدهشة، يحوطون على أفكارهم ورؤاهم مثل الطفل الصغير، أو الكنز الذي يجب أن يظل مخبئا لحين موعد الإعلان عنه، عبر كتاب أو فيلم أو رواية. كانوا يعتقدون جدا بسرقة الخيال والوحي من قبل قوى سوداوية، ترمي بالقصص والأفكار في ثقب عميق لا نهاية له. لذا، فقد كانت ومن ضمن أدوات عملهم، إجادة فن الكتمان حتى حين. فيكون حجم المفاجأة في العادة، كبيرا بشكل طردي مع إتقان التخفي والغموض. كانت في السابق تكفي فكرة، لتمتد بعدها التوقعات والتفاصيل والحكايات وتداخل الأحداث، والدهشات والنهايات المتوقعة وغير المتوقعة. وكانت القصة التي تروى على عجل، أو الجملة المسروقة في حافلة أو على ناصية الشارع أو في مقهى صغير، أو حتى رسالة في بريد القراء، كافية جدا لصناعة قصيدة من مائة بيت، ومسلسل من ثلاث عشرة حلقة! اليوم، ومع تسابق صفحات المنشورات، والتعليقات المتعاقبة والصور الملحقة بالموضوع، وتشابك القصص من شتى أنحاء العالم، وإصرار كل من هب ودب على المشاركة برأيه أو حكايته المتقاطعة مع المنشور، صار من الصعب جدا الاحتفاظ بالفكرة والإحاطة على المفاجأة المخبأة أكثر من نصف نهار. فحتى الكتاب الكبار والمبتدئون أصبحوا يلاحقون هذه الموضة المحرقة، لعرض بل لاستعراض خيالاتهم وقراءاتهم للمشهد الإنساني، ناهيك عن أفكارهم وتجاربهم الشخصية، وتجارب الآخرين الذين حكوها لهم باعتبارهم كتابا ومؤلفين. فأصبحت القصة مجتزأة، والقصيدة مختصرة والفكرة غازا يطير في الهواء! هذا الأمر فعليا صعب على المؤلفين استدراج التفاصيل من وراء شاشات القراءة، لتقديم أي جديد لم نقرأه أو نصادفه ونعلق عليه بدل المرة عشرة. وقصص الناس الغريبة، أو التي كانت في الماضي غريبة بالنسبة لمجتمعاتنا، صارت مستهلكة وممجوجة ولا تشكل دهشة صغيرة على تعابير وجوهنا، لأن أصحابها لم يوفروا دقيقة للكشف عنها بالصوت والصور والكتابة التي لا تكون صالحة للقراءة في غالب الأحيان. لذلك، يبدو منطقيا جدا التنبؤ بما ستحمله سيناريوهات الأعمال التلفزيونية والسنيمائية، طالما لم تخرج من دائرة البوح المفتوحة على مصراعيها هذه الأيام. تراجع الفكرة وجمود الخيال وصعوبة الجملة المنطوقة لفظيا وصوريا، له أسباب كثيرة بالتأكيد، مثل غياب الثقافة والاطلاع على تجارب العالم الخارجي، كنوع من الاستفادة على الأقل من انفتاح مواقع التواصل. لكن أيضا استسهال كشف الأوراق بشكل يومي ولحوح من قبل الكتاب، عبر "بوستات" محصورة في عدد محدود من الكلمات، ضيع عليهم وعلينا متعة التوقع ودهشة الدراما وزفير الأنفاس المحتبسة.اضافة اعلان