الإبحار في منطقة مضطربة

   لم يعد شبح "الفوضى الإقليمية" بعيدا عن منطقة الشرق الأوسط، بينما يذوي طموح الإصلاح، على الأقل على المدى المنظور، بحيث يخيم مناخ أمني على الملفات الملتهبة (العراق وإيران وفلسطين)، في حين يرشح كل من الملف السوري واللبناني لاتخاذ طابع أمني في القريب العاجل. هل هذه قراءة متشائمة؟ بالتأكيد، لكنّها للآسف تمثل سيناريو واقعي خلال السنتين القادمتين.

اضافة اعلان

  على الصعيد العراقي، تتلخّص المناظرة الأميركية بقضيتين رئيستين؛ الأولى جدولة انسحاب القوات الأميركية بالتزامن مع إعادة الانتشار، والثانية تقسيم العراق مؤقتاً إلى ثلاثة أقاليم (شيعي، سنيّ، كردي). والجديد، في هذا السياق، يتمثل بإرهاصات لتوافق جمهوري- ديمقراطي على أنّه لا يوجد مخرج من الحرب الأهلية التي بدأت مراحلها الأولى سوى بإيجاد ثلاث مناطق تخضع كل منها لإدارة مختلفة، على غرار "دايتون 2" في البوسنة، وصولاً في مرحلة قادمة إلى تحديد المصير.

   وفي حين يدفع زعيم الأقلية الديمقراطية في مجلس الشيوخ، "جوزيف بايدن" باتجاه التقسيم المؤقت فإنّ باحثين وسياسيين مخضرمين كـ"أنتوني كوردسمان" يحذرون من الآثار الوخيمة للتقسيم. وعلى الرغم من ذلك يعترف "كوردسمان" أنّ " الحرب الأهلية والتقسيم أمران لا يمكن تفاديهما"، إلاّ أنّه يحذر أنّ تبني استراتيجية تقسيم العراق سيزيد الأوضاع سوءا بدل تحسينها. لكن من الواضح أن كوردسمان وغيره من الرافضين للتقسيم لا يملكون مخرجاً من "المستنقع العراقي".

   على الجهة المقابلة، يتبنى اتجاه سياسي أميركي آخر منح القوى السياسية العراقية فرصة أخيرة للمضي قدماً في العملية السياسية وتجنب الحرب الداخلية، وإلاّ فإنّ على الولايات المتحدة سحب قواتها خلال فترة لا تتجاوز عام 2008.

  بينما يرى محللون أميركيون آخرون أنّ الحالة العراقية تجاوزت اليوم "العقدة الفيتنامية"، وألقت بها وراء ظهرها، إذ إنّ فشل الولايات المتحدة تماما في العراق سيصيب المنطقة المحيطة بأسرها. وهذا الرأي محق تماما، فمن الواضح أنّ الإعلان عن الانسحاب الأميركي أو عن فشل العملية السياسية يطلق العنان لصراعات دموية وتطهير طائفي وعرقي وتحول العراق إلى ساحة معلنة للاستقطابات والصراعات الإقليمية، التي لن يمتصها العراق وحده، بل ستمتد إلى دول الجوار.

    أول الدول المرشّحة لتوظيف الحالة العراقية هي إيران، في المقابل ستتوتر الأوضاع بين كلٍّ من تركيا وإيران وسورية وبين الأكراد، أمّا العرب السنة فسيكونون الطرف الأضعف والأفقر في معادلة الصراع العراقي، وسيحظون بدعمٍ عربي سري أو علني لحمايتهم من القوى الأخرى المسنودة إقليميا.

  في الشرق من العراق، تبدو الأزمة النووية الإيرانية مرشحّة لتصعيد أكبر، وإذا كانت ايران تحسن اللعب بالأوراق الإقليمية، فإنّ الإدارة الأميركية لن تسمح لها، أيّاً كان الثمن، بامتلاك سلاح نووي، وفي حال استنفدت الأدوات الدبلوماسية والضغوط الاقتصادية، فسيكون الخيار العسكري ممكناً، بدرجة أكبر، على الرغم من معارضة عدد من الاستراتيجيين الأميركيين المعروفين للعمل العسكري. وبالتأكيد لن تمرّ ضربة إيران بلا تداعيات إقليمية.

    أمّا الملف الفلسطيني، فيمر بمرحلة خطرة وحرجة، وإذا لم تسفر جلسات الحوار الوطني عن نتائج تقلب المعادلة الحالية، فإنّ الأمور ستسير نحو الأسوأ. في هذا السياق ثمة ثلاث مقاربات أميركية تجاه حماس؛ الأولى دعم محمود عباس والعمل على إسقاط حكومة حماس، لاستعادة مسار خارطة الطريق، الثانية ممارسة الضغوط على حماس لإعادة تأهيلها للمشاركة في العملية السلمية، أمّا الثالثة التي يتبناها تيار داخل اليمين الأميركي، فتقوم على أنّ من مصلحة إسرائيل بقاء حكومة حماس بمواقفها الحالية، لتأكيد مقولة "عدم وجود شريك فلسطيني"، ويرى هذا الاتجاه ضرورة استمرار الحصار السياسي على حماس مع تمرير مساعدات إنسانية تساعدها على البقاء إلى حين انتهاء بناء الجدار العازل وتثبيت حدود إسرائيل النهائية، وتحويل المجتمع الفلسطيني إلى مجاميع بشرية تفتقد مقومات الدولة، وتتجه بأنظارها شرقاً (إلى الأردن) لحل مشكلاتها اليومية والاقتصادية.

    "السيناريو الأردني" يمثل حلاًّ لمشكلة إسرائيل الأمنية والديمغرافية، وإذا كانت الإدارة الأميركية لا تتبناه اليوم، في ظل معارضة رسمية أردنية واضحة وصريحة، وتجدر الإشارة هنا إلى تأكيد وزير الخارجية عبد الإله الخطيب، في لقائه مع عدد من الكتاب، أنّ "الأردن لن يساعد في حل مشكلة إسرائيل" - بالإشارة إلى الدور الأمني المطروح- لكنّ الخشية أن يصبح هذا الخيار هو مطلب الفلسطينيين إذا ما تدهورت الحالة الأمنية الداخلية.

    الأردن يعتبر أنّ مصلحته الحيوية تكمن اليوم في دعم محمود عبّاس، ويخشى أنّ إصرار حماس على مواقفها الحالية، سيساعد إسرائيل على المضي في بناء الجدار العازل، وسيجعل "السيناريو الأردني" هو الأقوى مستقبلاً. وفي الوقت الذي لا تزال فيه حماس ترفض القبول بالمبادرة العربية وتراهن على عامل "الوقت" لفك الحصار، فإنّ معلومات متسربة تؤكد أنّ محمود عباس لن يمنح حماس وقتاً طويلاً، حتى توافق على القبول بمشروع التسوية، وإلاّ فإنّه سيستند على الاستفتاء على "وثيقة الأسرى" للانقلاب على الحكومة الفلسطينية الحالية. وهذا السيناريو يفتح، بدوره، الباب لاحتمالات تدهور الوضع الداخلي أمنيّاً.

    الملف السوري، يسير - هو الآخر- باتجاه التأزم، فالاعتقالات التي يقوم بها النظام والانقضاض على قوى المعارضة لا تمثل علامات على قوة النظام بل على ضعفه، وهي بمثابة الهروب إلى أمام، من مواجهة تآكل شرعية الحكم، والأزمة البنيوية التي باتت مؤسسات النظام تعاني منها، مع وجود إشارات من قبل خدام والإخوان على نيّة صارمة لاسقاط النظام خلال فترة قريبة، ويعزز من هذه الأزمة التقرير المرتقب للمفتش الدولي، الذي ستكون له آثار داخلية كبيرة، وسيزيد من عزلة النظام داخليا وخارجياً.

   أمّا الملف اللبناني، فسيتأثر بتطورات الأوضاع الإقليمية، بالتحديد في إيران وسورية، فيما يمثّل الأردن رأس الحربة وصمام الآمان لدول الخليج العربي في مواجهة التحديات الأمنية الإقليمية الكبيرة القادمة. ويبدو أنّ هنالك إعادة إنتاج لمحور إقليمي عربي (سعودي، أردني، مصري) لبناء مقاربة مشتركة لمصالح هذه الدول من ناحية، وفي رؤيتها لدور النظام العربي الذي تتضاءل قدراته وإمكانياته مع مرور الوقت!

[email protected]