الإسرائيليون أسرى إعلامهم

إحدى الركائز الداعمة للحركة الصهيونية، ومنها المؤسسة الحاكمة الإسرائيلية، هي شبه الإجماع لدى الجمهور الإسرائيلي، الذي يتسع من حين إلى آخر، ويحاصر أكثر الأصوات الخارجة عنه. وهذا ناتج عن سلسلة من العوامل التي فرضتها الصهيونية على مر عقود، وعلى رأسها زرع وترسيخ حالة "الخوف من الغير". وما ساعد على هذا، أن الجمهور الإسرائيلي محاصر من قبل إعلام أحادي اللغة، ومُجَنّد للاستراتيجيات الصهيونية العليا.اضافة اعلان
فلا يكفي أن نهاجم وننتقد حالة الإجماع الصهيوني الحاصلة، بل من المفيد البحث عن عوامل تبلور هذا الإجماع واتساعه، خاصة أنه في سنوات خلت كانت هناك شروخ كثيرة فيه، وكانت الأصوات الخارجة عن موقف الغالبية الساحقة ليست قليلة، وما كان بالإمكان الاستخفاف بها في حينه، وبشكل خاص في الفترة الممتدة من النصف الثاني من الثمانينيات وحتى نهاية التسعينيات من القرن الماضي.
وبطبيعة الحال، فإن الصهيونية ومؤسساتها الحاكمة، تعمل وفق استراتيجيات لتحقيق أهدافها. فهي بحاجة إلى موقف الرأي العام الإسرائيلي، وأن يصب في اتجاه يخدم مصالحها العليا. ولهذا، نراها تفرض منهاجا دراسيا في المدارس، ترافقه سلسلة من البرامج اللامنهجية الداعمة للخط الأساس، بهدف إنشاء أجيال ملتصقة بالبرامج والأهداف الصهيونية، وفي الوقت نفسه، ترفض وتنبذ كل من لم يتأقلم مع هذه السياسة.
وفي عصرنا، يلعب الإعلام دورا بارزا في بلورة موقف الرأي العام. وبالرغم من اتساع سوق الإعلام الإسرائيلي الذي يدحرج سنويا مليارات الدولارات، إلا أنه يبقى إعلاما مُجنَدا ومجنِدا للمصالح العليا، على الرغم مما نقرأه من نقاشات وجدالات حادة وأقلام جريئة. فالإسرائيلي، وإن كان يمتلك لغة أخرى في بيته، إلا أنه يبقى أسيرا لوسائل الإعلام الإسرائيلية، كونها تعالج قضاياه اليومية، وتعرض عليه التطورات الإقليمية والعالمية بخط إعلامي مبرمج يخدم الأهداف الصهيونية العليا. وأمام واقع كهذا، فإن هذا الإسرائيلي لا يسمع عن تلك الأحداث بوجهات نظر وروايات أخرى. ولهذا، تترسخ لديه قناعات مسبقة ومشوّهة حول كل ما يدور حوله.
تنتشر في إسرائيل عشرات وسائل الإعلام المتنوعة. لكن الوزن الأكبر لها يصب في أربع صحف كبرى، رغم أن اثنتين منها تسيطران على أكثر من 80 % من القراء. إضافة إلى ثلاث قنوات تلفزيونية مركزية، عدا القنوات المتخصصة، أكبرها القناة الثانية؛ وعدد من الإذاعات، اثنتان منها تسيطران على أكثر من 85 % من الجمهور. هذا مع عشرات مواقع الإنترنت، وإن كان الانتشار الأوسع لموقعين اثنين.
وسائل الإعلام المركزية هذه، منها رسمية وأخرى تجارية، هي التي تبلور الرأي العام وتفرض الأجندة العامة على الشارع الإسرائيلي. ونستطيع القول إنه في العامين الأخيرين على وجه الخصوص، صار هناك اتجاه واضح لتوجيه الأنظار إلى القضايا الداخلية العامة، ومنحها مساحات واسعة، وتقليص وحتى تهميش حجم التغطية السياسية والقضايا الاستراتجية، بهدف تقليص حجم اهتمام الجمهور بها، ما يؤدي إلى حرية حركة أكبر للمؤسسة الحاكمة في تطبيق الاستراتيجيات والسياسات.
في العقود السابقة، ظهرت مبادرات عربية، في الأردن وسورية ومصر، لبثّ نشرات اخبارية باللغة العبرية. لكنها للأسف لم تحقق نجاحات، لسلسلة من العوامل، منها المضامين وشكل العرض، من دون الأخذ بعين الاعتبار مستوى تطور الإعلام الإسرائيلي. وفي أحيان أخرى، كان شكل البث، من فضائي وأرضي، ليس متوفرا في كل البيوت الإسرائيلية، كما أن جمهورا واسعا لم يكن يعلم بوجود نشرات كهذه.
ما يزيد من حدة هذه القضية، هو أن الصهيونية استوعبت منذ فترة طويلة أهمية الإعلام في بلورة الرأي العام المحلي والعالمي. ولهذا، شجعت أثرياء في العالم من أبناء الديانة اليهودية، وعلى علاقة وطيدة بالصهيونية، على الاستثمار في وسائل الإعلام العالمية والكبرى. ولهذا نسمع عن حجم رأس المال اليهودي الكبير في وكالات أنباء عالمية، وفي شبكات إخبارية عالمية ضخمة، بهدف محاصرة الرأي العام في الدول الكبرى، وفي دول القرار.
إن اختراق الشارع الإسرائيلي هو حاجة ضرورية لقلب ركائز السياسة الإسرائيلية. وهو اختراق يحتاج إلى مسارات كثيرة، من أبرزها وأهمها وسائل الإعلام، التي من المفترض أن تكون وسيلة وصول أسرع من غيرها. وطالما استمر الوضع القائم، فسيكون من الصعب انتظار تغيرات جذرية في السياسة الإسرائيلية.