الإسلام والعلمانية

د. محمد المجالي*

هذا الدين العظيم ليس دين طقوس مرتبط بالعبادات والجنائز والأطعمة، ولا مجرد علاقات فردية داخل المجتمع الإسلامي، ينظم الأحوال الشخصية من زواج وطلاق وميراث؛ بل هو دين كامل شامل للحياة كلها. وليست هذه بدعة جماعة أو حزب، بل هو القرآن هكذا، أنزله الله دستور حياة شامل. وما أروعها من آية تلك التي تنفي الإيمان إن لم يُحَكّم القرآن، إذ قال تعالى: "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما" (النساء، الآية 65).اضافة اعلان
لقد حدث أن أصبح هناك شبه إجماع أممي على تبني المنهج العلماني بفصل الدين عن الحياة، لأسباب كثيرة تحدثنا عنها مرارا، أهمها ظلم الكنيسة وتجرؤها على العلم والشعوب. فكانت الثورة الفرنسية (1789-1799) المطالبة بالحرية والإخاء والمساواة، وفصلت الدين عن الحكم. وتبعتها كردة فعل الثورة الصناعية (التي اعتمدت أساسا على العلوم التي نُقلت من الشرق وأسسها المسلمون أنفسهم)، ليعلق في أذهان كثيرين أنّ من أهم أسباب إعاقة التقدم هو الدين. وتمت ترجمة مصطلح "Secularism" إلى العلمانية، وفي ذلك شيء من التضليل. فالكلمة في أصلها تدل على الفصل بين الدين والحياة، بينما توحي ترجمتها إلى الربط بينها وبين العلم. وبالرجوع إلى القاموس الإنجليزي، نجد المعنى يدل على الإلحاد (غير ديني). فهل كانت هناك براءة في الترجمة؟ قطعا لا، بل يريدون نقل المشكلة إياها إلى عالمنا الإسلامي؛ بأن من أسباب تخلفنا هو الدين، وإذا ما أردنا التقدم فلا بد من نبذه، أو على الأقل حصره في الشأن الخاص الفردي، لا بأن ينظم شؤون الحياة.
هكذا أرادوا للدين الذي أول كلمة من كتابه أنزلت هي "اقرأ"، وفي الآيات الخمس الأولى جاءت الكلمات الدالة على المنظومة العلمية والثقافية من قراءة وعلم وقلم، بل تحدثت عن العلق، وهي لفتة إعجاز علمي في أول لقاء بين محمد وجبريل عليهما الصلاة والسلام في غار حراء.
والمصيبة ليست في الغربيين أو أعداء هذا الدين، فهذا ديدنهم؛ بل هي في المسلمين المقلدين. فليست هذه هي الوسيلة الأولى لحرب الغربيين على الإسلام ومحاولة اجتثاثه، أو على الأقل تشويهه، إذ سبق ذلك الحروب الصليبية في حملاتها المتكررة، وبعد فشلها كان المنهج الثقافي الفكري المركِّز على الحملات التبشيرية المستمرة حتى يومنا هذا، والذي نتجت عنه سابقا حركة الاستشراق التي ركزت على دراسة علوم الشرق، وعلى وجه التحديد القرآن والسنة والتاريخ؛ لا رغبة في الدين، بقدر ما هي معرفة أصوله كي يتم التشكيك فيها. وهذا ما تم لهم، وأُعجب بهم أناس من أبناء جلدتنا، فكانت حركة التغريب التي نتج عنها بعض التشويه على أيدي بعض المسلمين، مما يسمى بالحداثة والحداثيين.
وليتهم وقفوا عند طموح التجديد في الوسائل والفهم، فهو شيء مرغوب، بل اتبعوا ساداتهم من المستشرقين في جرأة عجيبة على النص القرآني والنبوي، ونزع للقداسة عنهما، وثورة شاملة على التراث، وتقديم للعقل على النقل. هكذا ظنوا أنهم سينجحون في تحرير العقل الإسلامي، ومن ثم تحقيق النهضة الشاملة في الحياة.
لم يكن القرآن والسنة إلا أهم مقومات نهضة الأمة. ولست في معرض دفاع عنهما في هذا الشأن، فكل متصفح لهما لا بد سيقتنع مباشرة بالحقيقة. فالقرآن احتوى ما يزيد عن الألف آية من أصل 6236 آية، فيها القضايا العلمية المباشرة وغير المباشرة. والعلم اليوم ما يزال يكتشف قضايا تحدث عنها القرآن، فيما نسميه الوجه العلمي لإعجاز القرآن. وهناك المسائل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدولية والتربوية، إضافة إلى العبادية والتعريف بالخالق وتوحيده، وبيان العلاقة بين الإنسان والكون والحياة، وتفصيل أدق الأمور أو تأصيلها بربطها بالمصالح العامة للفرد والمجتمع. كل هذا وغيره مما نقطع بأنه لا يمكن أن يكون دينا شخصيا، بل لينظم شؤون الحياة كلها.
إن العلمانية تعتمد كثيرا على صور مشوهة لنظام الإسلام الشامل. وبناء عليه، تحذر من وصوله إلى الحكم، لأن وصوله يعني التخلف والدموية والظلم والدكتاتورية. وقد كتب أحدهم عن الخلفاء قديما، وكيف أن معظمهم قتل، ابتداء بعمر وعثمان وعلي، وكثير من الخلفاء الأمويين والعباسيين. وصحيح أن هذا موجود فعلا، ولكن لماذا نركز على النهاية الدموية وننسى الحياة الحافلة بالعطاء؟! ثم، ما نسبة الدموية من تاريخ الأمة؟ ولماذا التركيز –ونحن بشر- على السلبيات دون الإيجابيات؟! ألم يكن التاريخ الإسلامي حافلاً بالتقدم العلمي والحضاري؛ فمثلما نقرأ لفرج فودة فلنقرأ لمصطفى السباعي عن روائع حضارتنا، ولنقرأ عن الأندلس، وعن الاكتشافات العلمية والحضارية والمدنية، ولنراجع رسالة الملك جورج الخامس إلى ملك المسلمين بالأندلس هشام الثالث التي يشكو فيها الظلام الذي يحيط بهم (في السويد والنرويج وإنجلترا)، بينما ينعم المسلمون بتقدم علمي، ويستأذنه بإرسال مجموعة من الطلبة لتلقي العلم في بلاد المسلمين؟! ولماذا ننسى أن أعظم المهندسين والأطباء والفلاسفة والحكماء والرياضيين والفيزيائيين والكيميائيين وغيرهم هم من المسلمين، والغرب عالة على اكتشافاتهم؟ ولماذا ننسى أن معظم الحروب المدمرة عالميا هي من صنع غيرنا المتقدم، حتى بعد العلمانية؟!
إنني أدعو إلى تغيير السؤال حول تخلف المسلمين. يقولون إن سبب تخلفنا هو ديننا، وأنا أقول: إن ابتعادنا عن الدين هو سبب تخلفنا، لأننا عندما تمسكنا به كانت الحضارة في مختلف أشكالها وميادينها. وعمليا، لا يشكل الدين في حياتنا المعاصرة إلا الصبغة الشخصية، والقليل من شؤون الحياة.
إننا نظلم الدين عندما نقول إنه سبب تخلفنا، وهو منذ قرن تقريبا مقيّد مبعد عن الحياة، والعلمانية هي التي تحكمنا، والدين مجرد شعار أو ديكور نزيّن به دساتير الدول "الإسلامية" تبركا، تماما كما يفعل البعض بوضع القرآن في مكان ما في البيت زينة وبركة، أو في السيارة حماية من الحوادث. هكذا أصبح الدين مفرَّغا من مضامينه.
وإن نادينا إلى شيء من السياسة، شنوا علينا حربا، بل جعلوا مصطلح "الإسلام السياسي" جريمة وشبهة، ربما يحاكَم متبنيها المبتدِع؛ فكل بدعة ضلالة! وإن نادينا إلى المنهج الاقتصادي أو الاجتماعي أو حتى التربوي، فنحن متخلفون رجعيون! فلنبق عالة على الغرب واضعين المنهج الإسلامي خلفنا. ونسي هؤلاء أن الإسلام نفسه يدعو إلى البحث عن الحكمة، حتى لو كانت عند أعدائنا؛ فهو دين يحترم العقل والفكر والحضارات كلها، ليس جامدا ولا منغلقا.
إن العلمانيين يسعون إلى تشويه الإسلام ومنعه من الحكم بأي وسيلة، لأنه حين يحكم من جديد فسيكشف عورات عهد مظلم ظالم، وسنكتشف أن قرنا مضى هو طارئ على البشرية، حُيِّد فيه الإسلام، وآن له أن يفرض نفسه من جديد، بل يكاد ينتشر سلما في معظم الدول الأوروبية نفسها التي عادته. وهي دعوة إلى المسلمين أن يعتزوا بدينهم ويفخروا به، بعد أن قادتهم العلمانية إلى ضياع هويتهم وذوبانها، وهم الأحرص اليوم على الاعتزاز بدينهم والرحمة على الإنسانية كلها التي تعاني –رغم تفوق المدنية فيها- من تعاسة وشقاء وانفصام. فالسعادة لا تكتمل إلا باجتماع الروح والمادة، وهذا يقودنا إلى مزيد من الفهم والوعي والانتماء الحقيقي للدين، حتى لا نكون عالة عليه.


*أكاديمي أردني