الإصرار على الانفصال عن الواقع

نشرت صفحات جريدة “الغد” الموقرة على مواقع التواصل الاجتماعي يوم أمس مشكورة مقابلة مصورة أجرتها مع أحد المتعافين من مرض كورونا، وذلك للحديث عن تجربته المريرة التي كابد فيها الأمرّين وواجه الموت من مسافة الصفر- شافاه الله هو وكل مرضانا-. له الشكر على مشاركته التجربة التي بحسبه شكلت منعطفاً غيّر مسار حياته. رغب بمشاركتها مشكوراً من باب التوعية، وإن اختار بأن لا يُظهِر هويته ربما لخوفه من التنمر أو وصمة العار وهذا من حقه بالطبع.

اضافة اعلان

مثل تلك المشاركات، والإضاءات التي تسلطها الصحيفة في هذه الأوقات محمودة لتأكيدها على ضرورة أخذ العبرة وفهم مستوى الخطر الذي أصبح تقريباً في كل مكان. لكن المذهل الكم الهائل من تعليقات المتابعين على المنشور؛ والتي أقل ما يمكن أن تظهره درجة انفصال قطاع لا يستهان به من المجتمع عن الواقع، والمدى الذي وصل إليه ذاك القطاع من العيش في بُعد ثان مواز من صنع نقائص معلوماته والجهل بأبسط الحقائق العلمية.

لا أبالغ عندما أجزم بأن الخطر الأكثر دهماً من أي وباء أو حرب أو أي تهديد آخر بالتأكيد هو القدر الهائل من الجهل المجتمعي، والذي لا يعود لمجرد تردي نظام تعليمي بشكل مفرد، بل بسبب النقص الهائل على صعيد الإلمام بالسياسة وبل حتى بإدراك المحيط الذي نعيش به ككل، بالإضافة إلى الفجوة المعرفية بأبجديات الحياة ضمن مجتمع حضري في القرن الحادي والعشرين. وما ينجم عن كل ذلك من اللامنطق والذي بدوره يطبع نمطية فكره. عداك طبعاً، عن الرفض القاطع المتعصب لأي حدث تتصدر الحكومة أو حتى إحدى المنظمات العالمية مشهده، والإسراع فوراً إلى الإنزلاق بمبالغة في وحل نظريات المؤامرة التي لا تمت للواقع أو العلم بأي صلة، والتي قد تصل من المنظور السيكولوجي إلى درجة اعتبارها اضطرابات الشخصية والانفصال عن الواقع.

نؤكد مجدداً، بأن الكورونا ربما لم تشكل الخطر الأكثر فتكاً بمجتمعات كمجتمعنا واقتصادنا فقط، بل أدت الدور الوظيفي للعدسة المكبرة، التي سلطت الضوء على معضلات استشرت حتى باتت تشكل تهديدا صريحا للأمن الأهلي، وأوضحت الظواهر بشكل مضاعف لا تخطئه الأعين، ومن أهمها النقص في الوعي العام، والتحدر العام في المستوى الثقافي بمعزل عن المستوى الأكاديمي، فعدم إدراك المحيط والانفصال عن الواقع المعاش يؤدي بالضرورة إلى توجيه السلوك فيما لا يتفق والمصلحة الجمعية والتي هي بالأساس حجر الزاوية للأمن الأهلي.

الوباء ما فتئ يفتك بالاقتصاد والصحة العامة كما فتك للأسف بمقدرات الدولة، وبدلاً من أن تطالعك مبادرات شبابية تثلج الصدور، تجد من يعمل بقدر محدود من الثقافة وكم كبير من الانفصال عن الواقع بالتجديف عكس التيار وبالتالي زيادة الطين بلة. فحتى لو جاء يوم وانتهى الكورونا من حياتنا من الناحية الصحية عبر حلول علمية- على ما يبدو قد أصبحت ليست ببعيدة-، إلا أننا يجب بأن لا نمر مرور الكرام، فالخطر الحقيقي المحدق، والذي على ما يبدو باقٍ ويتمدد هو ذاك الفكر الجمعي العقيم والذي يستمد زخمه من نقص المخزون الثقافي والتمرد على كل شيء بدون أدنى عقلانية سوية. والذي يخصب البيئة لأي فكر مشوه تتبناه تلك الفئات الثملة على الظلمة الفكرية التي تغلف أعينها.

تبعاً لذلك، فكلما واجهنا تحديات في أي وقت ستتصاعد تلك الأصوات النشاز لتتناقل أفكارا مغلوطة على طريقة القطعان التي تجري بدون وعي، حتى لو داست فوق محصود رزق يومها بغير عمد، فقط لتهرب من الواقع الذي يعجز أمامه مخزونهم المعرفي. لذا لا بد من أجل العمل على حل المعضلات المعروفة التي تفتك بالمجتمعات منذ عقود مثل الاقتصاد، الفساد، ضعف الموارد وضعف التنمية وتردي التعليم، يجدر بالأساس تسليط الضوء على ظاهرة الفئة المنسلخة عن المجتمع بأكمله، والتي أصبحت تعيش في ظلمة ثقافية حالكة، ودراسة الأسباب التي أوصلتها إلى ذاك المصير، والعمل على إيجاد مبادرات وطنية تعيد حياكة المجتمع بلبنة الثقافة الواعية المتسقة وهويتنا الوطنية، وفيما يُغَلب مصلحة الجميع عبر التأسيس لفكر يواكب العصر وتحدياته.

في النهاية، المطلوب ليس فئة واحدة لا تعترض ولا تناقش، المطلوب فئات متنوعة لديها فكر متنوع تتلاقح بنقاش ثقافي علمي يحترم الرأي الآخر، ويعتمد العلم الصحيح لتوضيح وجهة نظرهم. فحتى المعارضة السياسية هي بالأساس اختلاف فكري وتوجه أيديولوجي، لكن أيضاً يتوجب بأن يتم تبنيه بأصول تصب في المصلحة الجمعية بدون تعصب عمياني غارق بالجهل.