الإعلام مخرِّبا وخراباً!

عزّزت ديناميكيات الأزمات العربية المتتالية من حجم الخراب والتخريب الجاري في الإعلام العربي، فمن يشاهد القنوات أو يقرأ العديد من الصحف العربية اليوم يصيبه شعور مرتبك فيما إذا كان عليه أن يلعن هذا الدور التخريبي للإعلام، وغياب استقلاليته، أم أن يحزن على حالة الإعلام، الذي تحوّل إلى "خرابة" لعدم توافر معدّل حقيقي من الحرية الإعلامية وغياب القدرة على اجتراح "مساحات" مستقلة للقيام بالمهمات الحقيقية للإعلام، من نقل الوقائع وتحرّي البحث عن الحقيقة.اضافة اعلان
 للأسف ما كانت تبشّر به عملية التحرّر من الرواية الرسمية العربية عبر "إعلام القطاع الخاص"، وانتشار الفضائيات والمواقع الالكترونية، بولادة أفق حقيقي لعمل إعلامي احترافي، تكاد تختفي اليوم.
  ذلك الأفق بدأ بالظهور مع نهاية التسعينيات والألفية الجديدة حينما كنا نشهد قدراً من الحرية والاستقلالية والتغطية المهنية، وبدا وكأنّ الفضاء الإعلامي الجديد أفلت بدرجة كبيرة من الهيمنة الرسمية التقليدية، ثم تعزز ذلك مع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي وازدهار ظاهرة "المواطن الإعلامي"، وأصبحت هذه المواقع أهم ديناميكية في ثورات الشعوب العربية.
       إلاّ أنّ الأمور عادت بالتدريج لتأخذ مساراً معاكساً تماماً، تنازلياً، في الحريات الإعلامية والاستقلالية والمهنية بصورة ملحوظة، مع حقبة الربيع العربي وما تلاها من ثورات مضادة، فعادت الحكومات لتُحكِم قبضتها على وسائل الإعلام الرسمية، وغير الرسمية عبر عمليات الضغط والابتزاز لأصحاب رؤوس الأموال والقطاع الخاص، الذي يمتلك تلك الوسائل.
     ثُمَّ مع انفجار الحروب الأهلية العربية الداخلية، وأخيراً الأزمة الخليجية، لم يبق مكان واحد تقريباً لشيء اسمه احترام المهنية والمصداقية والحرية الإعلامية، تم تجريف أغلب المساحة التي بدأت تتولّد مع تراجع الإعلام الرسمي وبروز الإعلام الخاص، ليصبح الإعلام الخاص اليوم أشدّ بلاء وأكثر تخريباً من الإعلام الرسمي نفسه!
     في مرحلة سابقة، حتى في ظل الأنظمة الدكتاتورية، سُمح بنوافذ من الحرية الإعلامية، لمراعاة العصر الإعلامي الجديد، وللتنفيس عن الناس، لكن حالياً غير مسموح أي هامش يتناقض مع التوجهات السياسية، وأصبحت لا تفتح موقعاً الكترونيا أو تقرأ صحيفة أو تشاهد قناة فضائية من تلك الوسائل المرتبط بالأزمات العربية، إلا وتجد اللغة الدارجة فيها هي لغة الردح والتحريض أو التخوين، والتقارير تفتقد إلى الموضوعية والمهنية، واللغة لا علاقة لها بالمواد الإعلامية، بل هي أقرب إلى "الدعاية " Propaganda، ففقد الإعلام ذاته واستقلاليته وأصبح جزءاً لا يتجزأ من المشهد الكارثي العربي الراهن.
    حتى مواقع التواصل الاجتماعي، التي أصبحت متنفساً بديلاً لحالة التردي الإعلامي، تنبّهت لها الحكومات العربية، فوُلدت ظاهرة "الجيوش الالكترونية"، من خلال توظيف وتحشيد مواقف مصنّعة من المؤيدين لسياسة الحكومات، الذين يقومون بالإنابة عنها بتقديم روايتها والهجوم على المعارضين أو الخصوم، وهي ديناميكية تتخللها الشتائم والاتهامات واغتيال الشخصية وتهكير الحسابات، وخلق اتجاهات وهمية معلّبة.
    بالطبع مثل هذه الحالة الإعلامية لها أبعاد أخرى لا تقل خطورة، منها بروز نوعية من الإعلاميين الذين لا يتقنون سوى الشتائم والردح، أو المرتزقة، وابتعاد و(استـ)بعاد الإعلاميين، الذين يحاولون الحفاظ على مربعات محترمة من الكينونة المهنية والإعلامية، وتردي لغة الإعلام، والاتجاه إلى لغة العواطف والغرائز، ما خلق ارتباكاً كبيراً في فهم الناس لمفهوم الإعلام نفسه ودوره الحقيقي المطلوب.
    بالنتيجة، الإعلام، الذي كان يفترض أن يكون رافعة من روافع الخروج من الأزمات العربية، أو التخفيف من حدّتها، وملجأ للمواطنين؛ أصبح اليوم أحد أهمّ ماكنات الخراب، فالحكومات لا تؤمن إلاّ بإعلام تابع ينقل روايتها، ورأس المال والقطاع الخاص لا يملك آليات الدفاع عن الاستقلالية، ولا توجد تقاليد راسخة للمؤسسات الإعلامية، لحماية القيم المهنية والاستقلالية، في حماية نفسها من التخريب الحاصل!