الاحتياطي النقدي والأنهار الجليدية

Untitled-1
Untitled-1

واشنطن- في مثل هذا الوقت من العام الماضي لم تكن تعبيرات مثل "الإغلاقات العامة" و"إلزامية ارتداء الكمامة" والتباعد الاجتماعي معروفة لمعظمنا. لكنها اليوم جزء من لغة حياتنا اليومية، إذ إن جائحة فيروس كورونا (كوفيد 19) مازالت تؤثِر على كل مناحي حياتنا. ومن خلال الأشكال البيانية الاثني عشر التالية نحاول تقديم وصف كمِّي وعرض عام لبحوث زملائنا في مواجهة أزمة لم يكن لها بحقٍ مثيل.اضافة اعلان
على مدار الاثني عشر شهراً الماضية، ألحقت جائحة كورونا أشد الضرر بالفئات الفقيرة والأكثر احتياجا، وتُنذِر الآن بسقوط ملايين من الناس في براثن الفقر. فبعد عقود من التقدم المطرد في الحد من أعداد الفقراء الذين يعيشون على أقل من 1.90 دولار للفرد في اليوم، سيكون هذا العام إيذاناً بأول انتكاسة لجهود مكافحة الفقر المدقع في جيل كامل.
يُطلِّق أحدث تحليل تحذيرا مؤداه أن الجائحة أفضت إلى سقوط 88 مليون شخص آخر في براثن الفقر المدقع هذا العام، وأن ذلك الرقم هو مجرد قراءة أولية.
وفي سيناريو أسوأ الأحوال، فإن هذا الرقم قد يرتفع إلى 115 مليونا. وتتوقع مجموعة البنك الدولي أن تكون أكبر شريحة من "الفقراء الجدد" في جنوب آسيا، تليها مباشرة منطقة أفريقيا جنوب الصحراء.
ووفقا لأحدث نسخة من تقرير الفقر والرخاء المشترك، فإن "كثيرا من الفقراء الجدد يشتغلون على الأرجح في قطاعات الخدمات غير الرسمية، والإنشاءات، والصناعات التحويلية - وهي القطاعات التي تأثر فيها النشاط الاقتصادي بشدة من جراء الإغلاقات العامة والقيود الأخرى على الحركة والانتقال."
لقد كان لهذه القيود -التي فرضت لكبح انتشار الفيروس، ومن ثمَّ تخفيف الضغوط على أنظمة الرعاية الصحية المُنهكة والضعيفة- تأثير هائل على النمو الاقتصادي. وبعبارة مُبسطة، قال إصدار شهر حزيران (يونيو) من تقرير الآفاق الاقتصادية العالمية: "لقد أحدثت الجائحة أزمة عالمية ليس لها مثيل - أزمة صحية عالمية، علاوة على خسائر بشرية هائلة - أفضت إلى أشد ركود شهده العالم منذ الحرب العالمية الثانية." وتنبأ التقرير بانكماش الاقتصاد العالمي وكذلك متوسط نصيب الفرد من الدخل هذا العام ليدفع بملايين من الناس في هوة الفقر المدقع.
وتُضعِف هذه التداعيات الاقتصادية قدرة البلدان على الاستجابة على نحو فعال للتأثيرات الصحية والاقتصادية للجائحة. وحتى قبل تفشِي الجائحة، كان نصف كل البلدان منخفضة الدخل تقريبا تعاني بالفعل من ضائقة مديونية أو في خطر التعرض لها، مما لا يتيح لها مجالا يذكر للتحرك على صعيد المالية العامة لمساعدة الفئات الفقيرة والأكثر احتياجا الذين تضرروا بشدة من جراء الجائحة.
ولهذا السبب، دعا البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في نيسان (أبريل) إلى تعليق مدفوعات خدمة الديون المستحقة على أشد البلدان فقرا لتمكينها من التركيز على مكافحة الجائحة. وقد مكَّنت مبادرة تعليق مدفوعات خدمة الدين هذه البلدان من توفير مليارات الدولارات من أجل استجابتها في مواجهة الجائحة. ومع ذلك، كما يتبين من الشكل التالي، فإن مخصصات خدمة الديون للدائنين الرسميين ستشكل عبئا ثقيلا في الأعوام المقبلة، وسيلزم اتخاذ إجراءات سريعة لتخفيف الديون من أجل تفادي ضياع عِقد آخر.
وعلى حد قول ديفيد مالباس رئيس مجموعة البنك الدولي، فإن "تعليق مدفوعات خدمة الديون تدبير مؤقت مهم، لكنه ليس كافياً." وأضاف قوله "يلزم اتخاذ خطوات أخرى كثيرة لتخفيف الديون" منها توسيع نطاق مبادرة تعليق مدفوعات خدمة الدين إلى حين إيجاد حل أكثر دواما.
وإذا لم يُتخَذ مزيد من التدابير لحل مشكلة الديون، فإن السعي لتحقيق تعاف مستدام قد يتعثر في الكثير من البلدان، بالإضافة إلى طائفة من الأهداف الإنمائية الأخرى. وكما لاحظ تقرير الآفاق الاقتصادية العالمية، فإن الكثير من اقتصادات الأسواق الصاعدة والبلدان النامية استطاعت تنفيذ استجابات واسعة النطاق على صعيد المالية العامة والسياسة النقدية خلال الأزمة المالية 2007-2008، لكنها اليوم أقل استعدادا للتغلب على هبوط النشاط الاقتصادي العالمي. وتعتمد أشد هذه البلدان ضعفا اعتمادا كبيرا على التجارة العالمية والسياحة والتحويلات المالية للمهاجرين والمغتربين. ومن المتوقع أن تصدر في أوائل كانون الثاني (يناير)، الطبعة التالية لتقرير الآفاق الاقتصادية العالمية شاملة التنبؤات المُحدثة.
التحويلات المالية التي يرسلها المهاجرون والمغتربون إلى بلدانهم أمر مثير للقلق بصفة خاصة. فخلال العقود المنصرمة، تزايدت أهمية الدور الذي تلعبه هذه التحويلات في تخفيف وطأة الفقر وتعزيز النمو. ففي العام الماضي فقط، كانت هذه التدفقات المالية مساوية للاستثمارات الأجنبية المباشرة والمساعدات الإنمائية الرسمية (من حكومة إلى حكومة).
ولكن جائحة كورونا أحدثت انتكاسة شديدة، حيث خلصت أحدث تنبؤاتنا إلى أن التحويلات المالية ستنخفض بنسبة 14 % بنهاية العام 2021، وهي نظرة مستقبلية أفضل قليلاً من التقديرات في وقت سابق خلال الجائحة، التي لا تناقض حقيقة أن هذه تراجعات غير مسبوقة. فمن المتوقع أن تشهد كل المناطق تراجع التحويلات المالية، وأن تُسجِّل أوروبا وآسيا الوسطى أكبر تراجع. ومع هذه التراجعات، من المرجح أن تهبط أعداد المهاجرين والمغتربين في العام 2020 - وذلك للمرة الأولى في التاريخ الحديث - مع انحسار أعداد المهاجرين والمغتربين الجدد وزيادة أعداد العائدين منهم.
وتقطع هذه التراجعات شريان حياة لكثير من الأسر الفقيرة في البلدان النامية، إذ تحظى التحويلات المالية للمهاجرين والمغتربين بأهمية حيوية للأسر في أنحاء العالم، ومع انحسارها، يخشى الخبراء أن يزداد معدل الفقر، وأن يشتد نقص الأمن الغذائي، وقد تفقد الأسر السبل التي تُمكِّنها من تحمل تكلفة خدمات مثل الرعاية الصحية.
وأثَّرت الإغلاقات العامة الناجمة عن الجائحة تأثيراً شديداً على منشآت الأعمال والوظائف . وفي شتَّى أنحاء العالم، تتعرض الشركات - لاسيما المنشآت متناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة في بلدان العالم النامية- لضغوط شديدة، إذ إن أكثر من نصفها لم تسدد ما عليها من متأخرات مستحقة الدفع أو من المرجح أن تتخلَّف قريباً عن السداد. ولفهم الضغوط التي يتعرَّض لها أداء الشركات بسبب جائحة كورونا، وكذلك التعديلات التي يتعين عليها إجراؤها، يقوم البنك الدولي وشركاؤه بإجراء مسوح استقصائية سريعة لجس نبض الأعمال في ظل جائحة كورونا وذلك بالتعاون مع حكومات البلدان المتعاملة معه.
وتبعث هذه المسوح بصيصا من الأخبار السارة. فقد أظهرت إجابات المشاركين في تلك المسوح بين أيار (مايو) وأغسطس (آب) أن الكثير من هذه الشركات استبقت موظفيها أملاً في استمرارهم في العمل حينما تتغلب على تأثيرات الجائحة. وزاد أكثر من ثلث الشركات استخدام مبتكرات التكنولوجيا الرقمية من أجل التكيُّف مع الأزمة. ولكن البيانات نفسها نبَّهت إلى أن مبيعات الشركات قد هبطت بمقدار النصف بسبب الأزمة، الأمر الذي اضطر الشركات إلى تقليص ساعات العمل والأجور، وأن معظم منشآت الأعمال -لاسيما الشركات متناهية الصغر والصغيرة في البلدان منخفضة الدخل- تسعى جاهدةً للحصول على دعم مالي عام.
وسيظل رأس المال البشري معرضاً لخطر النقصان بسبب انخفاض مستويات دخل الأسر -سواء بسبب فقدان الوظائف أو توقف تحويلات المغتربين، أو العديد من العوامل الأخرى المرتبطة بجائحة كورونا. ومع تراجع مستويات الدخل، ستُضطر الأسر إلى إجراء مفاضلات وتقديم تضحيات قد تضر بالنواتج الصحية والتعليمية لجيل كامل.
وأبرزت الجائحة الحاجة إلى خدمات فعالة ميسورة التكلفة للرعاية الصحية. وحتى قبل بدء الأزمة، كان الناس في البلدان النامية يدفعون أكثر من نصف تريليون دولار من مالهم الخاص ثمناً للرعاية الصحية. ويتسبب ذلك الإنفاق في مصاعب وأعباء مالية لأكثر من 900 مليون شخص، ويدفع حوالي 90 مليون شخص للسقوط في براثن الفقر المدقع سنويا، وهي دينامية من المؤكد تقريباً أنها تفاقمت بسبب الجائحة.
والرعاية الصحية هي أحد السبل التي تُؤثِّر بها جائحة كورونا على رأس المال البشري للبلدان. وقبيل تفشِّي الجائحة، كان العالم يعاني بالفعل أزمة تعلُّم، إذ إن 53 % من الأطفال في البلدان منخفضة الدخل والبلدان متوسطة الدخل يعجزون عن قراءة جملة بسيطة عند إتمام دراستهم في المرحلة الابتدائية. وتزداد هذه المخاطر مع إغلاقات المدارس الناجمة عن الجائحة.
وفي ذروة الإغلاقات العامة الناجمة عن الجائحة، فرض أكثر من 160 بلداً شكلاً من أشكال إغلاقات المدارس التي أثَّرت على ما لا يقل عن 1.5 مليار من الأطفال والشباب. ويُمكِن الاطلاع في هذا الرابط على تحديثات منتظمة عن الإغلاقات العامة العالمية. - (البنك الدولي)