الاختبار العسير

هو اختبار كورونا، وما عساه يكون غير ذلك؟ انقضى عام تغيرت فيه ملامح الحياة تماماً، فما بين المشاعر المتقلبة بين الخوف والقلق والحزن والإغلاقات المتكررة، وأعداد الإصابات والوفيات التي لم نأمل أن نسجلها، والوضع الاقتصادي المتردي، وبين وضع الكمامات، والتعقيم وتطبيق العزلة الاجتماعية، والبعد عن ممارسة النشاطات الحياتية الروتينية. وجاء العام الثاني وكان يحدونا الأمل بأن تعود الحياة إلى مجراها، لكن هذا الفيروس أصرعلى البقاء وما يزال يقيم بيننا، يفتك بنا ويهاجم بكامل عنفوانه: شرسٌ وقد طالت إقامته، واشتدت خطورة أحاجيه التي تطالعنا في الدراسات التي تجرى بشكل مستمر. وما انفكت هذه الجائحة تشكل امتحاناً صعباً لنا جميعاً: للفرد، وللأسرة وللمؤسسة، وللمجتمع، وللدولة، وحتى على مستوى العالم. وكما في الحروب والنوازل الكبرى التي تُفرضُ على الشعوب دون إرادتهم، كان حريٌ بالدول والمؤسسات وضع استراتيجيات محكمة، وأن تحشد كل ما لديها من إمكانيات ومقدرات في مواجهة الجائحة والظروف المصاحبة لها، وتلك الناشئة عنها، والخروج بأقل قدر من الخسائر، ان لم يكن بتحقيق عظيم الفائدة. وفي مقدمة هذه الإمكانيات: أتحدث هنا عن الإمكانيات الإدارية والصحية والاقتصادية والعلمية، وبالإضافة إلى ذلك، وفي القلب منها: التسلح بالمعرفة والانضباط والتكافل وتدريب النفس على الصبر، فهذه الظروف الصعبة تكشف لنا قدرات وإمكانيات الدول والمجتمعات والمنظمات والأفراد في مواجهة الأزمات، وهي بمثابة امتحان للفكر والأخلاق وتحمّل المسؤوليات. تتلخص المكاسب في الحرب مع كورونا في أمرين غاية في الأهمية، أولهما: الحدّ من الخسائر البشرية والمادية والمعنوية، وسرعة التعافي من آثار الجائحة، وثانيهما: إمكانية رصد مكامن الخلل، واصلاح المؤسسات، والأنظمة، والمعالجة المتعددة الأبعاد والمستويات لأوجه القصور والعيوب على المدى القريب والبعيد، وهذه المراجعات يجب أن تشمل أداء الأفراد والمؤسسات والمجتمعات والدول. لقد اختبرت الجائحة منظومتنا المعرفية، وأبرزت مشاكلها معرفية عميقة، شملت كافة الشعوب والخلفيات الحضارية، وتمثلت في فهم الظاهرة وتفسيرها ودراسة إجراءات مكافحتها، وقد تشابهت مظاهر المشاكل المعرفية عبر المجتمعات والثقافات، ولكن تباينت خلفياتها. فقد كان لظاهرة الإنكار للمرض والتشكيك فيه، والتقليل من مخاطره ومقاومة إجراءات مكافحته، وتبنّي نظرية المؤامرة أثر كبير في مضاعفة الخسائر، وإرباك خطط المواجهة وبالتالي اتساع رقعة الوباء زمانا ومكانا. كما أظهرت الجائحة تيارات تسوّق أفكاراً مخالفة لما يقدّمه العلماء والمختصون، ولقيت رواجا وقبولا، ربما لأن من كان يسوقها أحيانا هم من المتعلمين، والأطباء، وقادة الرأي، وأصحاب القرار، وحملة الشهادات والسياسيين، وخبراء الاقتصاد. وكشفت الجائحة مقدار ما يمكن حشده فعلياً من إمكانيات بشرية ومادية في الزمان والمكان المناسبين، وبشكل مؤسسي في المجتمع والدولة. وأظهرت القدرة على إدارة هذه الموارد بكفاءة، وضمن أولويات مرنة، والاستجابة السريعة لتطورات الأحداث، وتدفق المعلومات محليا وعالميا، والقدرة على توجيه خطاب إعلامي متماسك ومقنع وقادر على الوصول إلى الجمهور المستهدف من خلال المعلومة العلمية الأكثر مصداقية ودقة. وبالتالي تبديد الإشاعات والأوهام والفكر التآمري. كما شكّلت امتحانا أخلاقيا قاسيا للمسؤولين وللقطاع الصحي، وقطاع الأعمال، والعاملين والأفراد، إذ تبدّى العطاء وكذلك الأنانية، والصبر مقابل الجزع، والنزاهة مقابل الخداع، والعمل في وجه الكسل وتحمل المسؤولية أو الهروب منها، ففي الوقت الذي قدم فيه الكثيرون حياتهم خلال تأديتهم الواجب اختار البعض الهروب من المواجهة، وربما قاموا باستغلال المحنة لتحقيق مغانم مادية أو سياسية. من المؤسف أن تتراكم الخسائر، التي كان يمكن تجنبها، في معركتنا في مواجهة الجائحة، والأكثر أسفاً أن نعيش الجائحة، ولا نتعلم منها ونخرج منها بعائد وفير من التجارب الشخصية والمؤسسية والوطنية.اضافة اعلان