الاستقطاب والاختبار المجتمعي

سلسلة من الوقائع، خلال الأيام القليلة الماضية، قادت إلى سجالات ثقافية واجتماعية وسياسية بين الأردنيين على شبكات الإعلام الاجتماعي، وفي المجال العام. منها ما يتعلق بالقنوات التلفزيونية ("اليرموك" و"رؤيا" تحديداً)، ومنها ما يرتبط بتصريحات وتعبيرات لرجال دين وسياسيين وناشطين. وسبقت ذلك حوارات حول التعليم والمناهج أقل حدة. اضافة اعلان
معظم هذه التفاعلات دار رحاها على منابر الإعلام الاجتماعي، وكثيرا ما حركت الراكد الثقافي والاجتماعي، وخلفت ما يشبه حالة الاستقطاب، وأثارت غبارا ثقافيا وسياسيا فاق غبار الطبيعة الذي شهدته البلاد الأسبوع الماضي. لكنه على المدى البعيد غبار ثقافي وسياسي صحي، إذا ما تمت إدارته بطريقة تخدم متطلبات التغير الاجتماعي والثقافي.
نحن بحاجة ماسة إلى تحليل علمي محايد لتلك السجالات، لنعرف إلى أين يذهب المجتمع. فوسط كل ما أثير من سجالات برز فيها حد ما من صراع ثقافي واضح، وتوظيف سياسي يمكن رؤيته بالعين المجردة، وطبقات من الجهل، يظل الأهم من ذلك كله هو السؤال الذي ذهب إلى التشكيك في قدرة المجتمع الأردني على صون العيش المشترك؛ والادعاء بأن المجتمع لم يتعرض لاختبارات حقيقية. وهذه مسألة تحتاج إلى توقف طويل. فصحيح أننا بحاجة إلى نزع القدسية عن المجتمع ومحكماته في سياق تفاعلاته وتعبيراته، وفي ضوء تاريخه وخبراته السابقة، لكن في المجمل، يبدو السؤال السابق انفعاليا وآنيا. فالمجتمع الأردني اختبرت قدرته على صون حد معقول من التماسك الاجتماعي أكثر من مرة. وواجه هذا الاختبار قبل الكثير من المجتمعات المجاورة.
علينا الانتباه إلى أن ظاهرة الاستقطاب السياسي والاجتماعي والثقافي التي تعاني منها مجتمعات عربية اليوم، موجودة سابقا، لكن طبيعة الأنظمة السياسية وما كان يرتبط بها من نظم اتصال وإعلام، خلقت ثقافة تستر كانت تمنع التعبير عنها، كما أن بعض ظواهر الاستقطاب تم إنتاجها وتصنيعها في سياق التحولات السياسية الجديدة.
الاستقطاب الثقافي والسياسي لا يعني بشكل مطلق أن المجتمع يذهب إلى توترات حادة؛ فأحيانا تمثل حالة الاستقطاب تمارين حية في قدرة المجتمعات على تفريغ التوتر الناتج عن عمليات التحديث والتغير. ولا يعني ذلك حتما أن هناك بذورا انقسامية في بنية المجتمع مستعدة دوما للانفجار.
وعلى الرغم مما قد يقال حول خصائص التنوع والتعدد التي ينطوي عليها المجتمع الأردني، وما قد يقال حول المحطات التاريخية لتشكل المجتمع ومدى ما حققه الاندماج الاجتماعي من نضوج، وما قد يغلفه من هشاشة أو قوة، فإن ثمة شيئا مختلفا في التجربة المجتمعية الأردنية، هو الإرادة الناضجة والرغبة العميقة في حماية العيش المشترك التي تتفوق في كل مرة. وهذه الإرادة المجتمعية في الحالة الأردنية هي مزيج من خبرات الماضي القريب والبعيد، وخبرات الآخرين؛ وهي منتج اجتماعي صرف وليست منتجا سياسيا.
على الرغم من كل غلواء بعض سجالات الأردنيين حول الدين والمجتمع والتعليم ، ووهم المؤامرات وغيرها، إلا أن الحقيقة التي يجتمع حولها الجميع، بوعي أو من دون وعي، هي صون هذا العيش وتحصينه وتمتينه أكثر. هنا قد يبرز استفهام مشروع يقول بأن هذا الاستنتاج مفرط في التفاؤل، ولا يتفق مع الواقع ومع السوء الكبير الذي تكشف عنه هذه السجالات وعن عوراتنا القبيحة التي تبدو للعيان في كل مرة نختلف فيها. وهذا صحيح إلى حد ما. لكن ما يتغافل عنه الكثيرون أيضا هو إدراك طبيعة ومتطلبات التغيير الذي تفرضه المراحل الانتقالية في عمر المجتمعات، وما تأتي به من أزمات. إن التغيير نحو التحديث الاجتماعي والسياسي يأتي عادة بأزمات حادة وقاسية، لأنه يمس الثقافة المجتمعية. وهذا ليس اختراعا أردنيا، وهو ما علينا الاعتراف به.
علينا أن نتواضع في أحكامنا وفي رؤيتنا للتحولات؛ فمن الظلم الحكم كلما اختلفنا، بأن المجتمع يذهب إلى الهاوية!