الاستنزاف

بعيدا عن الجدل الدائر في وسائل الإعلام العربية حول تسمية ما يجري حالياً في الأراضي الفلسطينية المحتلة؛ هل هو انتفاضة جديدة، أم هبة شعبية، أم حراك شعبي، أم سوى ذلك، فإن ما يحدث بالضبط هو شكل جديد من أشكال الاستنزاف الذي يوظف جميع أشكال المقاومة البدائية، والمقاومة السلمية والمدنية، من أجل كسر شوكة الاحتلال. ولا شيء يستطيع جعل كيان الاحتلال يعود إلى مراجعة خياراته، سواء بالحرب أو السلام، أكثر من الاستنزاف.اضافة اعلان
خيار الاستنزاف غير مخطط له من قبل الفلسطينيين، كما يبدو على الأرض. لكن ماكينة الاحتلال تدرك حجم خطورة هذا الخيار، والمصير الذي يقود إليه. فهو، بلا شك، خيار اليأس الاستراتيجي؛ حينما يصل أحد أطراف الصراع إلى أن لا فائدة من أشكال المقاومة التقليدية كافة أو العمل السياسي، وأن الفرق في موازين القوى لا يمكن بأي حال اللحاق به. فتلجأ، عادة، قوى المقاومة إلى هذا الخيار في لحظات اليأس، لأنها تكون على استعداد لتقديم خسائر كبيرة، مقابل إيقاع خسائر ولو محدودة، ولكنها مستمرة ولا يحتملها العدو على المدى البعيد.
خيار استراتيجية الاستنزاف، وبمفهومه الفلسطيني الجديد، هو الخيار القابل للحياة، والقادر على تصعيد ثلاثة أشكال من الاستنزاف، هي: الاستنزاف الاستراتيجي لجيش الاحتلال وإمكاناته البشرية بالدرجة الأولى، وإيقاع ضربات مؤلمة به. ثم الاستنزاف السياسي للنخب السياسية الإسرائيلية، وتحديدا صورة الدولة الإسرائيلية في العالم، وصورة نخبها في الداخل، ما يزيد من أزمتها الداخلية والخارجية. أما الاستنزاف الاقتصادي، فقد يشكل تحديا من نوع آخر إذا ما استطاعت المقاومة الانتقال إلى مستوى جديد ومتقدم من المقاطعة للبضائع والخدمات الإسرائيلية. وهي التي يمكن أن تضرب الاقتصاد الإسرائيلي إذا ما انتقلت المقاطعة إلى مستوى العالم الاسلامي والعالم ككل.
هناك ثلاثة تحولات حقيقية تجعل من خيار استراتيجية الاستنزاف قابلة للحياة على الأرض الفلسطينية. التحول الأول، تُظهره العديد من المؤشرات الدالة على بداية تغير منطق الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، بما يتجاوز منطق التنظيمات التقليدية وأدواتها في المقاومة. وثمة يأس فلسطيني عميق ينال منظمة التحرير الفلسطينية، وصولا إلى حركة المقاومة الفلسطينية "حماس"؛ بمعنى أن تغيير منطق الصراع وأدواته قادم من الطرف الأضعف، لكنه الأكثر استعدادا لتقديم التضحيات.
أما التحول الثاني، فيعكسه ظهور جيل جديد من المقاومين الفلسطينيين من الشباب والشابات تحديدا الذين تجاوزوا خطوط التقسيمات الفلسطينية التقليدية، إلى جانب ظهور نخب سياسية فلسطينية صغيرة تنتشر هنا وهناك غير مؤمنة بالمنطق السياسي الذي يدير العمل السياسي والمقاومة وتحالفاتها، ويبحث عن طريق جديدة. فيما يبدو التحول الثالث في عودة المقاومة إلى استخدام أدوات بدائية؛ مثل الحجارة والسكاكين والدهس والكرات القماشية والمسامير، وغير ذلك من أدوات. إذ لم تُسجل أي عمليات تفجير تستهدف مدنيين، أو استخدام مباشر للأسلحة النارية. هذا التطور جعل النمط الحالي من المقاومة يتسع حتى وصل إلى داخل ما يسمى "الخط الأخضر". وخطورة هذه الأنواع من الأدوات أنها قابلة للاستدامة والاستمرار والانتشار، وهذا ما بدأت تدركه الماكينة الدعائية الإسرائيلية، إذ بدأت تربط بين سكاكين المقاومين وسكاكين الإرهابيين المنتشرة في المحيط الإقليمي.
استراتيجية الاستنزاف لا تحتاج أكثر من الإرادة القوية والقليل من القدرة. ولكنها استراتيجية النفس الطويل القادرة على تحريك التاريخ على الأرض الفلسطينية.