الاستيلاء: إسرائيل، النكبة، و"الأشياء" (2 - 3)

ترجمة: علاء الدين أبو زينة ريبيكا ل. ستاين* - (مجلة الإثنولوجيا الفرنسية) العدد 2 للعام (2015) هذه ورقة عن ممارسات الذاكرة الإسرائيلية في الأعوام الأخيرة -الطرق التي رفضت بها مجتمعات اليهود الإسرائيليين من مختلف المواضع، ونسيَت، وتذكَّرت، وأحيَت ذكرى تاريخ نهب الفلسطينيين وتجريدهم من ممتلكاتهم في خضم حرب 1948-1949 وفي أعقابها (المعروفة باللغة العربية باسم "النكبة")، وكيف فهمت هذه المجتمعات الإسرائيلية المختلفة الآثار المادية لعيش الفلسطينيين قبل العام 1948، والتي بقيت داخل حدود إسرائيل في أعقاب المنفى الفلسطيني. وتصر هذه الورقة على ما يمكن أن نسميه "الزمانية المزدوجة للذاكرة"، والطرق التي ترتبط بها الحالة السياسية -وربما أيضًا المعرفية- للذاكرة، و/ أو أفعال النسيان، بزمن الحادثة الأصلية المعنية، وبزمن فعل التذكر نفسه. وهكذا، ستنظر هذه الورقة في شروط الاحتمالية التي تدعم وتؤسس لأفعال الذاكرة، وتتساءل عن السبب في عودة مجموعة من التواريخ الفلسطينية التي أهملتها الدولة الإسرائيلية وحجبتها فعلياً إلى المشهد الإسرائيلي في لحظات معينة. * * * المنازل هاجرت روث وزوجها ديفيد إلى إسرائيل من الولايات المتحدة في السبعينيات. وحسب وصفها، كانا من الصهاينة الأميركيين التقليديين، ولو أنهما من طبقة معينة وخلفية تعليمية جيدة (كلاهما تخرج في جامعة هارفارد) -كان هذا قبل ذهابهما إلى المزيد من التطرف في أوائل الثمانينيات مع نشوب حرب لبنان ونشوء مجتمعات الاحتجاج التي حشدتها تلك الحرب داخل إسرائيل. وقد تعززت هذه المجتمعات في نهاية العقد مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987-1993)، وهي الفترة التي تركز فيها اهتمام روث السياسية على النشاط المناهض للاحتلال داخل إسرائيل والأراضي التي تحتلها. في صيف العام 2007، انضممتُ إلى روث في غرفة المعيشة بمنزلها الفسيح في حي أبو طور بالقدس الغربية. ومن الفناء الخلفي للمنزل الذي يقع مباشرة على حدود الخط الأخضر (تقول لي إن الخط يمر مباشرة بممتلكاتهم)، يستطيع المرء أن ينظر إلى أسفل إلى قرية سلوان الفلسطينية، وعبر الوادي إلى الركن الجنوبي الغربي من البلدة القديمة في القدس. وفي يوم صاف، يمكن للمرء أن يرى التلال الغربية للأردن. وخلال الانتفاضة الأولى، حيث كان الاحتجاج الفلسطيني والعمل العسكري الإسرائيلي شرسان بشكل خاص في سلوان المجاورة، كان حي أبو طور يُعد نوعاً من المنطقة الحدودية -مكاناً يتجنبه معظم اليهود الإسرائيليين. وخلال فترات المواجهة الشرسة، لم يكن من غير المعتاد استنشاق رائحة الغاز المسيل للدموع القادمة من الوادي في الأسفل. لكنّ هذه أوقات مختلفة الآن. على الرغم من أن هذه المنطقة تظل مجاورة للخط الأخضر كما هي، فقد تغيرت الجغرافيات السياسية الإسرائيلية والطموحات العقارية. ارتفعت أسعار المساكن في الحي -أي ما يسميه وكلاء العقارات الإسرائيليون اليهود "البيت العربي"- ارتفاعاً هائلاً. وفي اللغة الإسرائيلية السائدة، أصبح هذا المصطلح علامة جمالية بحتة، حتى أن نظرة موجزة على الإعلانات الإسرائيلية الخاصة بالعقارات في القدس الغربية ستشير إلى شيء مما يلي: "منزل على الطراز العربي الأصيل في باقة... (مليء بالأرضيات من البلاط الأصلي والسقوف العالية"؛ "منزل عربي رائع تم تجديده بالكامل في قلب ‘نفيه تسيديك’"؛ "بيت عربي للبيع في الحي اليهودي (البلدة القديمة، القدس)... يحتوي على الكثير من الأقواس". وفي هذه الدعايات التسويقية التجارية، لا يحمل وصف "العربي" المعنيِّ في طياته تهديدًا وطنيًا، ولا إرثًا لأي وجود سابق. إنه ليس موقعًا للذاكرة، ولا مصطلحًا يُقصد به الإشارة إلى تاريخ معماري تاريخي معين. وقد رفض معظم وكلاء العقارات الإسرائيليين الذين تمتت مقابلتهم من أجل هذه الدراسة، بلا استثناء -أو أنهم لم يتمكنوا- من ذكر التواريخ الفلسطينية المحددة المعنية في "البيوت العربية" التي يعرضونها. بدلاً من ذلك، شكل المصطلح اختصاراً لمجموعة من السمات المميزة المنسوبة إلى البناء المقصود: (الجدران الحجرية، والأرضيات المبلطة، والمداخل المقوسة، والأسقف والنوافذ الشاهقة)، وهو مصطلح يضيف إلى القيمة ويضفيها. وعلى هذا النحو، يستطيع وكلاء العقارات والمشترون المحتملون وملاك العقارات نطق كلمة "عربي" بحرية، من دون خوف من التأثير سلبًا على قيمة العقار المعني بإثارة شبح الإقامة الفلسطينية السابقة. وبهذا يكون المصطلح موضعاً للتجريد الرمزي -وسيلة استطرادية لإفراغ وصف "عربي" من أي محتوى إثنو-تاريخي أو قومي. بينما تجلس في الفناء الخلفي لمنزلها، مستمتعة بالمكان المحتمي من حرارة الطقس تحت الأشجار الشاهقة، تصف روث تاريخهم في هذا المكان. كان اختيارهم لحي "أبو طور" عشوائيًا إلى حد ما: "لكنني كنت أفضّل المنازل القديمة لأنني أعتقدت أنها بنيت بشكل أفضل من المنازل الأحدث وأكثر لفتاً للانتباه... في السبعينيات، كان هناك العديد من الأشخاص اليساريين (الإسرائيليين)، من تلك الأنواع البوهيمية، الذين استأجروا المنازل وعاشوا في القدس الشرقية. كان ذلك غير مكلف، كان ممتعًا، وكانت الأماكن مثيرة للاهتمام... كان الناس مهتمين بالفعل بالعيش في قطاع عربي في القدس. وأنا لا أتحدث عن أنواع المستوطنين؛ لم تكن هناك فكرة عن ذلك على الإطلاق. كان ذلك شيئاً رومانسياً نوعاً ما...". عندما رأت هي وزوجها المنزل لأول مرة في العام 1982، بدا منعزلاً تمامًا -حيث يقع، كما كان حاله، على حافة الجزء اليهودي من "أبو طور"، المتاخم للخط الأخضر. والشارع الذي يمر من تحت ما أصبح حديقتهما كان أضيق نقطة فاصلة بين الأردن وإسرائيل بين العامين 1948 و1967، بعرض ثلاثة أمتار فقط. وكانت المنازل المقابلة مباشرة للمنزل الذي أصبح ملكًا لهما الآن مقرًا عسكريًا أردنيًا. وكان المسكن نفسه نوعاً من "حطام" قبل انتقالهما إليه، كما لاحظت روث، حيث سكنته قبلهما عائلة كردية ممتدة انتقلت إلى الحي في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات من القرن الماضي أثناء الهجرة الجماعية لليهود الشرقيين من شمال إفريقيا والشرق الأوسط. وتصف روث مسار التجديدات المضنية لهذا المبنى العثماني الكلاسيكي: تحويل الفناء الداخلي إلى حمام؛ إضافة النوافذ والمناور إلى الجدران الحجرية السميكة؛ وضم مجموعة من الهياكل المقببة المنفصلة لإنشاء غرفة طعام واسعة. كانت العملية طويلة ومضنية، لكن النتائج كانت مرضية للغاية. سألتها عن التواريخ التي ضمها هذا المكان قبل قدومهما، وعن علاقتها هي بالماضي الفلسطيني الذي كان هنا قبلهما. هل تطاردهم أطياف ذلك الماضي في الوقت الحاضر؟ تقول: "أريد فقط أن أدلي بتصريح صهيوني أولاً، من حيث العيش في منزل عربي... لم يزعجني هذا قيد أنملة. أعني، لو كان الأمر يزعجني، لما كنت قد قمت بـ"آلياه" إلى إسرائيل (مصطلح عبري يشير إلى هجرة اليهود إلى إسرائيل). لأننا كنا على اتصال مع الأكراد، والناس الآخرين في الحي، الليبيين والمغاربة، فإنني في الواقع أربط المنزل بفترتهم أكثر بكثير مما أربطه بالمالكين العرب السابقين... موقفي هو أن جميع المنازل، في أي مكان تعيش فيه، لها تاريخ طويل جدًا. الناس يأتون ويذهبون، ولا أحد يمتلك منزلاً حقًا. المنزل موجود هناك، والأرض هناك، والناس يأتون ويذهبون. قريباً سنذهب نحن أيضًا... هذا لا يعني أنني لست مهتمة بتاريخ هذا المنزل، والسؤال عن سبب وجود خزان تحت العقار، وما إلى ذلك. كعالمة آثار ومؤرخة للتاريخ القديم، أنا مهتمة جدًا. لكن من الناحية السياسية، هذه ليست مشكلة بالنسبة لي... "وبما أنني أظل مؤيدةً لدولة إسرائيل، وبالتالي هاجرت إليها، لا أعتقد أن لدي الحق في أن أستدير وأقول: "لكنني لن أعيش في هذا المنزل أو ذاك". يمكنني أن أقول إنني لن أعيش فوق الخط الأخضر. لكني أقبل بقيام دولة (إسرائيل) على أنه حقيقة. إنني أقبله كجزء من تاريخ فلسطين". وروث على دراية بالتاريخ التعديلي للحرب -في الواقع، بتنويعاته الأكثر تطرفًا، وليس فقط النسخة التي قدمتها لها الدولة عندما هاجرت إلى هنا في السبعينيات. ومع ذلك، فإنها تعيش في منزلها من دون أي شعور بالندم ومن دون أي إحساس غير مريح بأطياف الماضي الفلسطيني. إن روايتها للسهولة التي يتحول بها بيت فلسطيني إلى واحد إسرائيلي، وتجريده من ماضيه وقدرته على أن يشكل هاجساً يطارد القادمين الجدد، تشير إلى شيء من عناد هذا الصراع وتصلبه -عناد ولد، في جزء منه، من تطبيع المشروع الاستعماري الإسرائيلي في الحيز اليومي للمنازل نفسها. * * * المشاهد الطبيعية قامت بتأسيس "ذاكرات" ("زوخوروت" بالعبرية) مجموعة من الإسرائيليين المعادين للصهيونية في العام 2002. وفي الأعوام التي تلت ذلك، سعى أعضاء هذه المجموعة إلى تثقيف مواطنيهم اليهود حول تاريخ السلب ونزع الملكية الفلسطينية، وعلى هذا النحو، يركز الكثير من عملهم على تاريخ وآثار حرب 1948-1949. وقد تنوعت وسائل المنظمة ومشاريعها: تنظيم جولات إرشادية موجهة في الأماكن الفلسطينية السابقة (سواء في بقايا القرى أو المساحات الحضرية)؛ إقامة احتفالات بإحياء ذكرى الفظائع التي ارتكبت في زمن الحرب؛ إقامة محاضرات وعرض أفلام تثقيفية عن تاريخ نزع الملكية الفلسطينية؛ عروض للفن السياسي الإسرائيلي المعاصر الذي يبرز موضوع المنفى الفلسطيني وعنف الدولة الإسرائيلية؛ احتجاجات مسرحية في الفضاءات الحضرية الإسرائيلية، والتي تلقي الضوء درامياً على التاريخ الفلسطيني المنسي؛ نصب لافتات في أماكن إسرائيلية (على سبيل المثال "هذه الأرض مملوكة لأهالي مسكة") لمحاولة تصحيح المحو المنهجي للفلسطينيين من المشهد الإسرائيلي. وفي حين أن جمهور "ذاكرات" الأساسي ما يزال محدودًا نسبيًا، إلا أن ظهورهم في وسائل الإعلام الإسرائيلية الرئيسية مرتفع نسبيًا، وغالبًا ما يكون ذلك في شكل هجمات سياسية على السياسة الرسمية. وتمكن قراءتهم كمقياس للحساسيات السياسية المتغيرة لليسار الإسرائيلي -وهو يسار تعقَّب ذات مرة ظهور النزعة العسكرية الإسرائيلية في بداية احتلال العام 1967، في ما اعتُبِر، بشكل عام، إعادة تقييم نقدية للعام 1948 تقترب من التجديف من حيث نزعها الشرعية والرخصة عن المشروع القومي الإسرائيلي. وترسم مجموعة "ذاكرات" مسارًا سياسيًا مختلفًا تمامًا، يروي تاريخًا مختلفًا تمامًا عن دولة إسرائيل. وتشير المجموعة في أدبياتها وخطابها العام إلى حرب 1948-1949 باستخدام المصطلح العربي "النكبة" -الاختصار العربي للإشارة إلى الاستيلاء ونزع الملكية الفلسطينية. وبالنظر إلى أن معظم الإسرائيليين يستخدمون مصطلح "حرب الاستقلال" لوصف تلك المرحلة، فإن "ذاكرات" منخرطة في جهد جريء من التشهير بالاستيلاء، ومحاولة إعادة كتابة التواريخ السائدة لتأسيس إسرائيل. في ربيع العام 2007، انضممتُ إلى ناشطي "ذاكرات" في إحدى جولاتهم سيرًا على الأقدام في أماكن فلسطينية سابقًا تم الاستيلاء عليها أثناء الحرب. وقد ركزَت هذه الجولة، التي استهدفت مجموعة من التربويين اليهود الإسرائيليين الشباب، على أنقاض قرية لفتا الواقعة في ضواحي القدس الغربية. وكانت هذه الآثار غير عادية إلى حد كبير، حيث ظلت لفتا واحدة من القليل جداً من القرى الفلسطينية التي لم يهدم الجيش الإسرائيلي مبانيها الأساسية بالكامل أثناء الحرب أو بعدها، ولم يقم اليهود الإسرائيليون بتجديد منازلها وإعادة سُكناها [Khalidi 1992:301-2]. ولدى التجوال في أنحاء القرية، يواجَه، حتى أكثر المشاهدين سلبية، بمجموعة من المنازل والممرات الحجرية السليمة بشكل لا يُصدق، إلى جانب بئر مركزية محاطة بأشجار اللوز والتين والكرز المزدهرة التي تشهد على التاريخ الزراعي الغني للمكان. على مدار العقد الذي سبق زيارتي، أصبحت المباني والمساحات ذات المناظر الخلابة بوضوح في قرية لفتا المهجورة مكاناً للمهمشين اجتماعيًا في إسرائيل، بما في ذلك واضعو اليد من "الحاسيديم"، وتجار المخدرات العلمانيون، وهي الآن وجهة مفضلة للمتنزهين المتجولين في فصل الربيع. وقد امتلأت واجهاتها الحجرية الخارجية بالكتابات الغرافيتية العبرية على الجدران وتناثرت في أجزائها الداخلية مع البقايا التي يتركها واضعو اليد أو المتنزهون. وأشارت المحادثات مع هؤلاء الزوار المتجولين إلى أن الأطياف في بقايا لفتا الفلسطينية لا تطارد، إلى حد كبير، الجمهور الإسرائيلي الذي يرتادها. أي أنها ليست ذات صدى تاريخي، ولكنها مجرد تحفة جمالية. أو بالأحرى، عندما يكون لها صدى تاريخي، فإنه يتردد بطرق خاصة جدًا، حيث يشكل دليلاً على انتصار إسرائيل في زمن الحرب بدلاً من أن يكون شهادة على تاريخ السلب وانتزاع الملكية والعار القومي. قام دليلي عبر لفتا، مؤسس "ذاكرات"، بتوضيح تاريخ القرية بمساعدة خريطة تحدد المدن الإسرائيلية الحالية ومواقع المساكن الفلسطينية السابقة. وأشار إلى القرى الفلسطينية المجاورة، بيت إكسا ودير ياسين وعين كارم وصفّا -وهي جزء صغير من القرى الموجودة في منطقة القدس والتي كانت مزدهرة قبل العام 1948. وبعض هذه القرى لم تعد قائمة، ولم تبقَ هياكلها المادية سليمة. وثمة أخرى، مثل عين كارم، أعاد تجديدها والسكن فيها الإسرائيليون اليهود الذين تُعد العمارة العربية بالنسبة لهم علامة جمالية وليست تاريخية. وقد فوجئ بعض المشاركين في الجولة، يصفون أنفسهم بأنهم يساريون، بإحداثيات الخريطة، وبقرب هذه الأماكن الفلسطينية سابقًا، التي تم حذف تاريخها السابق ومحوه من الذاكرة العامة، على الرغم من أنه غالبًا ما يكون ظاهراً ومرئيًا في المشهد الطبيعي. ويلاحظ شاب: "كنت أعرف أن هناك قرى فلسطينية في المنطقة. ولكن بمثل هذا العدد الكبير؟". عندما وصلَت جولتنا سيرًا على الأقدام إلى وسط القرية، سجّلتُ شهادة حاخام شاب انضم إلى هذه الجولة كجزء من تعليمه العالي. وقد وصف طفولةً إسرائيليةً ريفية قضاها وهو يلعب في البساتين، وبين الجدران الحجرية المتحللة، وفي ظلال الكثير من الأطلال. وقال لي: "كل هذه كانت علامات على أناس كانوا يعيشون هنا، علامات رأيناها بأعيننا، ولكن لم يخبرنا أحد من قبل من الذي كان يعيش هنا، ونحن لم نستفسر". ولم يتضح الأصل الفلسطيني لهذه الآثار وأشجار الفاكهة المهملة إلا في سن متأخرة لاحقاً، عندما أصبح في الثلاثين من عمره تقريبًا. واعترف: "وقد صدمني ذلك. لقد عشت في هذه المنطقة بكاملها مع كل هذه الأشياء، ولكن لم يخبرنا أحد، ولم نسأل نحن. إنكِ تعيشين بين هذه الإشارات والعلامات، ولكن ماضيها مُحي وطُمِس". بالنسبة لشخص على دراية بإسرائيل، ليست هذه القصة غريبة. خلال أعوام إقامتي هناك، سمعت العديد من النسخ والتنويعات -قصصاً عن اكتشاف المرء حقيقة أن المشاهد الطبيعية الإسرائيلية لطفولته كان لها ماض فلسطيني نابض بالحياة. وقد قيلت معظم هذه القصص بحس من المفاجأة؛ مفاجأة حادة بشكل خاص في دولة قومية تفتخر بامتلاك معرفة شاملة ومحسوسة للوطن. كيفَ، تساءل الكثيرون، يمكن أن تكون معرفتهم بالمشهد القومي العام خاطئة إلى هذا الحد الدرامي؟ ولماذا، تفكّر الكثيرون، تأخر تعريفهم كثيراً إلى هذا الحد؟ وغالبًا ما يكون هناك إلحاح مسموع لمثل هذه الأسئلة، بمعنى أن السائل يعيد معايرة -ليس الجغرافيا الوطنية فحسب، وإنما جغرافياه الشخصية أيضًا؛ أي أن هذه المراجعة وإعادة إدراك المشهد القومي تستلزم أيضًا إعادة تفكير في الهوية الإسرائيلية نفسها. بعد انتهاء الجولة، قدم دليلُنا شهادة مماثلة، والتي استندت إلى نفس الشكل السردي؛ نفس بنية الذاكرة. لقد نشأ في "كيبوتس" بالقرب من بقايا قلعةٍ متحللة. وقال: اعتقدنا جميعًا أنها قلعة صليبية. وكان قبل خمسة أعوام فقط، بعد فترة طويلة من إنهائه الخدمة العسكرية، حين عرف عن تاريخها الفلسطيني. ويقول: "بالطبع، كان هناك أشخاص في الكيبوتس يعرفون، أناس من الجيل الأكبر سناً. لكن هذا التاريخ لم يكن جزءاً من الخطاب، فحسب". قلتُ: "لكن هذا التاريخ حاضر، مثل طيف". توقف عن الحديث: "النكبة صدمتُنا نحن أيضًا. صدمًة المضطهِد". * * * *Rebecca L. Stein: أستاذة الأنثروبولوجيا الثقافية في جامعة ديوك، تبحث في الروابط بين الثقافة والسياسة في إسرائيل في سياق الاحتلال العسكري الإسرائيلي وإرث نزع الملكية الفلسطينية. مؤلفة كتاب "لقطات: عنف الدولة أمام الكاميرا في إسرائيل وفلسطين"، Screen Shots: State Violence on Camera in Israel and Palestine (مطبعة جامعة ستانفورد، 2021)، الذي يدرس الاحتلال العسكري الإسرائيلي في عصر الهواتف الذكية العالمية ولقطات الفيديو واسعة الانتشار؛ "العسكرة الرقمية: الاحتلال الإسرائيلي في عصر وسائل الإعلام الاجتماعية Digital Militarism: Israel's Occupation in the Social Media Age (شارك في تأليفه آدي كونتسمان؛ مطبعة جامعة ستانفورد، 2015). *نُشرت هذه الدراسة تحت عنوان: Dispossession Reconsidered: Israel, Nakba, Things *ملاحظة: المراجع في نهاية الجزء الثالث.اضافة اعلان