الاعتياد على ضياع الحقوق

       مع الزمن والكسل الذهني ووهن العزيمة، يتمكَّن الأعداء من تجريعنا الأحداث والمواقف غير العاديَّة، وغير المنطقيَّة؛ فنراها عاديَّة جدّاً، ومنطقيَّة تماماً، وننظر إلى التفكير المغاير فيها على أنَّه غير مستساغٍ، وساذج، ولا يجوز أن يلجأ إليه إلا المراهقون والبلهاء.

اضافة اعلان


من ذلك، مثلاً، إقرار الكنيست الإسرائيلي، قبل أيَّام، مبدأ التعويضات للمستعمرين الإسرائيليّين في حال إجلائهم عن مستعمراتهم في قطاع غزَّة. ماذا، إذن، عن الفلسطينيّين الذين تمَّ اقتلاعهم بالقوَّة من أراضيهم التي توارثوا العيش فيها لمئات ومئات السنين، والذين أقرَّت هيئة الأمم المتَّحدة حقَّهم في العودة والتعويض، منذ زمنٍ بعيد، بموجب القرار 194؟


     نعرف أنَّ منطق القوَّة يفصِّل الحقوق والواجبات على مقاس مصالح الإسرائيليّين. وإلا فكيف يكون من "حق" ملايين اليهود "العودة" إلى فلسطين استناداً إلى أسطورة توراتيَّة لم يدعمها دليل، بينما لا يملك هذا الحق أصحاب الأرض الحقيقيّون؟! وحتَّى لو ثبت أنَّ اليهود كانوا يسيطرون على فلسطين قبل أكثر من ألفي سنة، فهل يعطيهم هذا حقَّ الاستيلاء عليها مرَّةً أخرى؟ إذا كانت الإجابة: نعم. فمعنى هذا تثبيت معيار حقوقيّ دولي جديد؛ يلغي الخرائط الموجودة الآن كلَّها، ويحيي جميع "الحقوق" القديمة التي لا يطالب بها أحد.


العالم يقبل، مع الأسف، بهذا المنطق المتهافت، لأنَّنا قبلنا به، ولأنَّنا مستعدُّون للقفز باستمرار عن كلّ الحقائق الأوَّليَّة والبديهيَّة التي تدعم حقوقنا، ونتعامل بالتسليم التامّ مع النتائج والوقائع التي ترتَّبت وتترتَّب على معادلات غير عادلة وغير منطقيَّة.


      الإسرائيليُّون وأنصارهم يتوقَّفون عند كلّ كلمة وكلّ ممارسة، من أيٍّ كان، يشمُّون فيها رائحة تتعارض مع مصالحهم، فيرفعون عقيرتهم بالصياح والتحذير. فلماذا نسكت نحن دائماً، ونحن أصحاب الحق والحقيقة، على كلّ أشكال الظلم التي تمارس ضدَّنا؟!منذ مدَّة، على سبيل المثال، يسعى بعض ذوي القتلى الإسرائيليّين، لرفع قضيَّة على البنك العربيّ، بحجَّة دعمه للمنظَّمات الفدائيَّة الفلسطينيَّة! وقد انحصر ردّ الفعل العربي حتَّى الآن بالدفاع عن "سمعة" البنك، ونفي التهمة، واعتبارها قضيَّة ابتزاز عاديَّة! وربَّما يكون هذا صحيحاً تماماً، ولكن الموقف بمجمله يظلّ ضعيفاً، لأنَّه دفاعيّ، ويسمح للإسرائيليّين أن يظلّوا، بغير وجه حق، في موقف من يحقّ له توجيه التهم للآخرين وطلب محاسبتهم. والصحيح هو أنَّنا يجب أن ننتقل إلى مستوى الموقف الهجومي، بإحياء قضايا ألوف الشهداء والجرحى العرب وذويهم؛ في الأردن وسورية ولبنان وفلسطين، الذين أودت بهم، أو شوَّهتهم، أو سرقت منهم أحبَّاءهم، آلة الحرب الإسرائيليَّة الإجراميَّة. ألا يحقّ لهؤلاء مطالبة الإسرائيليّين بالتعويض؟! فلماذا لا تُقدَّم ألوف، بل ملايين القضايا، أمام مختلف محاكم الدنيا ضدّ مجرمي الحرب الإسرائيليّين؟! الأمر نفسه ينطبق على من سُلبت أراضيهم بالقوَّة، أو من عُذِّبوا ووضعوا في السجون.


     حينما حاول بعض ذوي ضحايا مجزرة صبرا وشاتيلا رفع قضيَّة على شارون والجنرالات والمسؤولين الإسرائيليّين، جرت حرب سريَّة وعلنيَّة شرسة لإحباط هذه القضيَّة، بل إنَّ العديد من الشهود الذين كان يُتوقَّع أن يدلوا بشهاداتهم في القضيَّة، تمَّت تصفيتهم جسديّاً، ولعلَّ من أبرز هؤلاء الوزير اللبناني السابق إيلي حبيقة. وهذا يدلّ على مقدار تحسُّب "إسرائيل" من مثل هذه الممارسات الكفاحيَّة.


نعرف أنَّ منطق القوَّة هو السائد الآن، ولكن التأثير على الرأي العامّ العالمي عن طريق قضايا محدَّدة لأشخاص معيَّنين، لهم أسماؤهم وعائلاتهم وتاريخهم، إنَّما هو اشتغال حقيقي ومهمّ لتغيير موازين القوَّة. وأكبر دليل على أهميَّة هذا الأسلوب أنَّ الإسرائيليّين وأنصارهم، وهم لا تنقصهم القوَّة، يلجأون إليه باستمرار، ويستنفرون تماماً إذا ما رأوا غيرهم يلجأ إليه.


E-mail: [email protected]