علاء الدين أبو زينة
صادف أمس الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية. وكلما حضَرت هذه المناسبة حضرت معها الشجون. ففي النهاية، حال اللغة من حال أهلها. إنها تشع وتنمو وتشرق حين ينتعشون، وتنش وتذبل وتنزوي حين يمرضون ويخملون. ولعل من أبرز علامات أزمة العرب والعربية افتتان اجيالنا الجديدة بلغات المركز الاستعماري الأوروبي على حساب لغتها القومية. وهذه الحركة تسير في اتجاه معاكس تماماً لاتجاه إنهاء الاستعمار، وتأكيد الذات الوطنية والقومية. ونجد تجليات هذه الظاهرة تتكيف في اليوميات؛ في الاستعمال المفرط للغات الأجنبية حيث لا لزوم لذلك، وعلى كل المستويات.
على مستوى الأفراد، يُقحم الكثيرون مفردات أجنبية –إنجليزية بشكل خاص- في عباراتهم من دون مبرر: فلا هم وُلدوا وعاشوا في دول ناطقة بهذه اللغة بحيث توطنت في تكوينهم اللغوي، ولا هم متخصصون في اللغة والأدب الإنجليزيين، يستخدمون بلا وعي مفردات تقنية يتصورون أنها أدق دلالة، ولا هم يتحاورون مع ضيف أجنبي. وعلى المستوى الأكاديمي، ستجد محاضراً يحاضر بالإنجليزية في جمهور عربي بالكامل، في موضوع يمكن تماماً أن يُبحث بالعربية بالتأكيد. وكثيراً ما يستخدم العرب في مراسلاتهم أو أحاديثهم عبارات ومفردات أجنبية خاطئة، بحيث يصعب ادعاء أنهم يستخدمون تلك اللغة الغريبة لأنها أسهل للتعبير عن الأفكار من العربية أو أكثر منها بلاغة.
هذا الافتتان يغلب أن يكون محاولة يائسة للانسلاخ عن ثقافة مهزومة متصوّرة وتقمص رموز ثقافة منتصرة. وهو في الحقيقة جهد لا طائل تحته –إن لم يكن ضاراً جملة وتفصيلاً. إنه يخدم فقط تعميق الهزيمة والتبعية والمزيد من تفكيك الهوية العربية المتعبة وتأزيمها. وليس معروفاً أن الثقافات المنتصرة تقبل الراغبين في الانضمام إليها غب الطلب، بينما ترحب بتعبير الآخرين عن الدونية والخضوع. وفي الحقيقة، حتى الذين يهاجرون إلى الغرب ويحصلون على الجنسية هناك يغلب أن يعانوا من المكوث في الحيز الثالث المقلق بين الثقافة الأصلية والجديدة. وعلى سبيل المثال، ما تزال أقسام كبيرة من الجاليات العربية في أوروبا مهمشة وفقيرة وغير مندمجة، حتى مع الأجيال التي ولدت هناك وتكاد لا تتحدث العربية.
من الملفت أن بعض العرب الذين ينخرطون في الإنتاج المعرفي النظري أو العلمي في الغرب يلمعون ويتميزون على مستوى العالَم. ولكن، يغلب ألا تكون لذلك علاقة مباشرة باللغة الأجنبية، بقدر ما يتعلق بالبيئة التي تشجع الإنتاج وتقبل على استهلاكه ثم ترويجه. وتعني قدرة اللغة العربية على استيعاب أفكار هؤلاء المنظرين حين تُترجَم إليها أنه كان بالوسع –نظرياً- إنتاجها بالعربية من الأساس. لكن القيود الكثيرة والمحرمات المفروضة على إنتاج الأفكار الجديدة، وقلة المستهلكين، تقيد اللغة ذاتها في نهاية المطاف وتعطل قدرتها على الاستكشاف. وبذلك، تكون اللغة ضحية من ضحايا الاستبداد، والتي ستتحرر بتحرير الإنسان الذي يستخدمها.
ما تعيشه مجتمعات ما- بعد- الاستعمار العربية الآن، هو حالة استعمار مقنعة. فإنهاء الاستعمار يعني التحرر من هيمنة المستعمِر. وإذا كان الناس يشعرون بثقل هذا المستعمر وهيمنته وهو بعيد في بلاده، بعمل الوكلاء أو حتى بعودة التدخل المباشر، فإن الاستعمار لا يكون قد انتهى فعلياً.
ومن مستلزمات الاستعمار الهيمنة اللغوية. وقد نجت اللغة العربية، بسبب خصائصها وارتباطاتها، من الاستعمارات على عكس ما حدث في دول أميركا اللاتينية وإفريقيا التي فقدت تماماً لغاتها المحلية. لكن العربية ما تزال تعاني على مستوى حرمانها من النمو بسبب عدم انخراطها في الإنتاج، وانصراف أهلها عنها باعتبارها لغة هوية مأزومة يريدون الهروب منها.
سيكون جزءا أساسيا من تعافي الهوية/ الشخصية العربية هو إدراك أصحابها أن خلاصهم لن يكون في المزيد من تمييع قوميتهم وتسليمها للراغبين في الهيمنة وقد فقدت الملامح وأصبحت بلا عمود فقري. إن الخلاص الوحيد هو استعادة عمل الأجهزة الحيوية للهوية العربية، ومن أهمها اللغة.
وسوف يكون التمسك باللغة والاعتزار بها أدوات مقاومة بالغة الأهمية، وجزءاً من معركة البقاء والتحرر أمام عناصر هزيمة الإنسان العربية، المحلية والعالمية. وسوف يكون الذي يحاول سلخ جلده بإيواء نوع من النفور –أو حتى الازدراء- للغته العربية القومية بصدد فعل انهزامي وانتحاري في نهاية المطاف، ومنسحباً من معركة مواطنيه من أجل تأكيد وجودهم في العالَم.