الانتخابات بما هي تدوير النخب

عندما يكون لصوص يسرقون الحاويات والمناهل يكون هناك حتما تجار أنيقون يشترونها ويبيعونها للأمانة والبلديات. وهذا المثال يلخص برمزية واضحة العمل السياسي والإصلاحي، فلا نملك أداة للإصلاح سوى الانتخابات، فالأزمات وحلولها وتقييم البرامج والمواقف والإنفاق وإدارة الموارد يعبر عنه واقعيا بالانتخابات، إذ يفترض أنها (الانتخابات) تأكيد على القبول ببرامج وأفكار أو مراجعة لها، وإن لم تكن كذلك فإن الانتخابات لا تعمل في الاتجاه المفترض والمنشئ لها ابتداء. وما يمكن التفكير فيه والعمل لأجله هو عدالة التنافس على النخب وأن تكون هذه العملية العادلة قادرة على تجديدها بإبعاد الفاشل واختيار الأفضل. هذا هو جوهر الانتخابات، فهي ليست سوى مراجعة واختيار للنخب! وتتعطل اللعبة عندما تكون قواعدها غير عادلة أو لا تعمل ابتداء، وعندما تكون الخيارات المتاحة حتى في عدالة وفاعلية اللعبة لا تأتي بقادة قادرين على الإصلاح. كيف تتشكل أمام الناخبين خيارات حقيقية ومتعددة؟ اضافة اعلان
ما نزال نكرر أنفسنا وأزماتنا منذ العام 1989 ولم نغادر حتى اليوم تلك الحلقة التي وضعنا فيها أنفسنا عندما هربنا من أزماتنا إلى الأمام أو بتأجيلها، ثم تحولت اللعبة إلى حياة سياسية شبه دائمة ومستقرة، ولم نعد نتذكر أننا فعلنا ذلك لأجل مواجهة حالة انتقالية نشأت في غياب الديمقراطية والأحداث السياسية الكبرى المحيطة بنا، لكننا اليوم ندرك جميعا (يفترض) بأن العملية الانتخابية هي الإجابة عن سؤال أساسي ومملّ: كيف ندير وننظم مواردنا بعدالة وكفاءة؟
ما من حالة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية تتشكل إلا وتعكس مصالح تديمها وتمنحها الصلابة والتماسك، لذلك لا خيار من الاعتراف بأن الحالة القائمة (الانتخابات والترشيحات المنفصلة عن إدارة الموارد وتنظيمها بعدالة وكفاءة) والتي نجمع نظريا على إدانتها تمثل مصالح لفئات من النخب والجماعات والأعمال، وفي ذلك تنشأ متوالية من الشرور، إذ أنه يجب أن نعترف بذلك ببساطة وبداهة لا تنفصل الانتخابات عن فكرتها المنشئة إلا بانفصال المواطنين والمجتمعات نفسها عن أولوياتها الأساسية، وهكذا يتحول ضعف المجتمعات وهشاشتها إلى مصلحة وغاية أساسية تعمل لأجلها فئات واسعة ومتنفذة وقادرة.
العشائرية الانتخابية التي نجمع على إدانتها في وسائل الإعلام ليست سلوكا او اتجاها معزولا عن المنظومة الاجتماعية والاقتصادية التي تشكلت بوعي مسبق، ففي ضعف علاقة المواطنين والمدن والمجتمعات بالسياسات الحكومية والخدمات الأساسية وأداء وسلوك الشركات الموردة للخدمات الأساسية لا يمكن أن تنشأ اتجاهات سياسية ومجتمعية تتقدم للانتخابات على أساس تحسين الحياة، ومواجهة العشائرية السياسية والانتخابية لن يكون إلا بإعادة بناء وتنظيم العلاقة بين المواطن والمكان والخدمات والأولويات الأساسية المفترض أن تنشئ حياة الناس وعلاقاتهم ومؤسساتهم، وكل ما نفعله من انتقاد لتوظيف الروابط القرابية والدينية في العمل السياسي والعام لا يؤثر قيد أنملة في الديناميات والحوافز المحركة للانتخابات والعمل العام والعلاقات الاجتماعية المرافقة لها، فهي روابط لم تنشأ كهواية جميلة أو استجابة لفكرة معزولة، ما هكذا تنشأ أو تنحسر الأفكار والاتجاهات.
الكارثة لم تعد تتوقف على عدم فاعلية وجدوى الانتخابات لكنها في السياسات والاتجاهات والمصالح الناشئة عن ضعف المجتمعات وهشاشتها، لم تتكاثر المدارس والمستشفيات الخاصة مثل الفطر إلا بسبب ضعف التعليم الرسمي، ولم يضعف التعليم الرسمي إلا بسبب غياب العلاقة بين المواطنين والمؤسسات التعليمية، ولم تغب هذه العلاقة إلا بسبب ضعف أو تغييب ولاية المواطنين على هذه الخدمات والمؤسسات، وفي المقابل وبطبيعة الحال ومن غير حاجة الى تحريات ومعلومات تتشكل اتجاهات واستثمارات قائمة على تغييب المجتمعات وضعف ولايتها وعلى إفساد وإضعاف الخدمات والمرافق العامة.