البعبع

من الواضح أن الموروث الإنساني لكل دول المنطقة، وأقصد دول الشرق الأوسط تحديدا، قريب من بعضه البعض، وفي هذا الموروث الكثير من العادات والتقاليد المتشابهة وحتى التعابير، حتى أن القصص الخرافية تكاد تكون متشابهة وقريبة، فقصة الغول والبعبع وغيرها من الخرافات التي عرفناها صغارا معروفة عند منطقة الجزيرة السورية كما هي معروفة لدى أهل الأردن وفلسطين، والقصة نفسها يتحدث عنها أهل لبنان كما يتناقلها أهل العراق، والخليج.اضافة اعلان
والبعبع في المفهوم الشعبي الشرق أوسطي هو الغول أو الغولة، أو (أبو رجل مسلوخة)، وغيرها من الموروثات الشعبية، والحكايا الخرافية التي كنا نسمعها صغارا، والمشكلة أن تلك المفاهيم الخرافية باتت تسكن خلفية عقول بعض شعوب المنطقة وربما دولها وكأنها حقائق مسلم بها.
والمشكلة أننا جميعا، وحتى لا أكون مبالغا، سأقول سوادنا استمع من أهله لقصص الغولة والشاطر حسن وغيرها من ترهات الصغر، وبعضنا سكنت فيه، وربما بعضنا بات يتصور الغول ويتخيل أشكاله، ويخاف من بعبع الصغر، والكثير منا قد يتوافق أن أهلنا كانوا يستحضرون (الغول وأبو رجل مسلوخة) وخلافه من موروثات خرافية، لكي نكون أكثر التزاما وللحد من شغبنا أحيانا، ودفعنا للالتزام بالفراش والنوم.
الأنكى من ذلك أن دول العالم باتت تعرف يقينا مدى ارتباطنا كدول وشعوب بالخرافات تلك، وتعرف إيمان بعضنا؛ دولا وشعوبا بها، والدول الاستعمارية تلك تعرف طريقة تفكير منطقتنا، وتعلم أن الموروث الذي نشأت عليه شعوب دولنا ما يزال مستقرا في النفوس، وأن ذلك الموروث رغم زعمنا عدم تصديقه إلا أنه يجد له مكانا في خلفية تفكيرنا، فعمد الغرب على استحضار بعبع خاص لنا تستدعيه كلما باتت بحاجة اليه.
ولأن من يقرأ التاريخ جيدا يستطيع أن يعرف الواقع ويتوقع المستقبل، والتاريخ يقول إن الغرب استحضر بعبع التمدد الشيوعي والخطر منه، فدفعت دول وكيانات للتحالف مع القاعدة الإرهابية وقت ذلك لمواجهة الخطر الشيوعي المزعوم، فكانت أفغانستان مسرح الصراع، وباتت الطريق إلى القدس تمر عبر كابول بنظر البعض.
بعد ذلك استحضر الغرب كيانات إرهابية مولوا بعضها وأمدوا بعضها الآخر بالسلاح لإبعادنا عن التفكير بالخطر الحقيقي المتمثل بوحود الكيان الصهيوني المصطنع في خاصرة منطقتنا العربية، وعندما انكشفت الحكاية، وظهر للعلن حجم المؤامرات التي تحاك، يجري حاليا استحضار بعبع آخر لجعل العيون شاخصة دوما لمكان غير المكان الذي يجب النظر إليه وهو ممارسات الكيان الصهيوني في المسجد الأقصى وإجرامه بحق شعب ما يزال حتى اليوم تحت الاحتلال.
دعونا نستذكر أن الكيان الصهيوني وخلال الأشهر الماضية مارس أبشع المخططات بحق الأقصى والقدس والمقدسات الإسلامية والمسيحية ورحل آلاف السكان من منازلهم، وقتل شبابا وأطفالا وشيوخا، وعمل على ترحيل البعض لخارج فلسطين، كل ذلك جرى ويجري يوميا ولم تنظر دول المنطقة له بعين الريبة والقلق، باستثناء تنبه أردني واستنكار للأفعال التي يقوم بها الكيان، فيما انشغل الآخرون بالبعبع الجديد والمتمثل بالخطر الإيراني، فباتت فضائيات العرب تتحدث عن ذلك الخطر ليل نهار، وبات الموضوع هو الشغل الشاغل للمعلقين والمحللين وغيرهم، وارتفعت في الأثر نبرة التصريحات النارية التي غابت كليا عن ملاحظة ما يقوم به الكيان الصهيوني من ممارسات.
الواضح أن دول الغرب تتعمد دوما إبعادنا عن ملاحظة البعبع الحقيقي المستوطن بيننا (الكيان الصهيوني)، وتعمل جاهدة على خلق بعبع جديد ورفع وتيرة خوفنا منه وجعله يحتل المكان الأوسع في مساحة تفكير دول وشعوب منطقتنا، فالغرب يريدنا أن نكون دوما وقود حربه ومخزن تمويل أسلحته، وأن تكون منطقتنا ساحة صراعه ومعقل تنفيذ مخططاته التي لا تنتهي، لذلك، دعونا نخرج البعبع من عقلنا ونرى الحقائق كما يجب رؤيتها دون غباش أو قصر نظر.