التحرش الجنسي.. أزمة مجتمع!

لا تصدق عينيك وأنت تتابع مصدوما محتوى مقطع الفيديو الذي انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي، خلال اليومين الماضيين، ويُظهر حالة هياج جماعي وتحرش بفتاتين مسكينتين في أحد الشوارع الرئيسة والحيوية في إربد. وقبل أن تستفيق من هول الصدمة والاشمئزاز من هذ المشهد، الذي تجزم بتكذيبه وفبركته، تتواتر المعلومات والشهادات الحية بتأكيد الحادثة، بكل قباحتها ولا إنسانيتها، إن لم نقل أكثر!اضافة اعلان
مثير للغضب حد الألم أن تضطر لمشاهدة هذا المشهد، وحالة الهياج التي تلف بعض من يسمون أنفسهم بشرا من شباب طائش وفارغ، مهشم نفسيا وفكريا واجتماعيا وثقافيا، وهم يستبيحون حرمة وإنسانية فتاتين، شاءت الأقدار أن تتواجدا في ذلك المكان تلك اللحظة.
ليس جديدا الحديث عن ظاهرة التحرش الجنسي بالنساء والفتيات في مجتمعنا، بل وتزايد هذه الظاهرة الشنيعة والمرضية في السنوات القليلة الأخيرة، والتي يتناسب اتساعها طرديا -كما يبدو- مع اتساع حالة الانحدار الاقتصادي والمعيشي وتوسع دائرتي الفقر والبطالة، وما تتركه هذه الأزمات من اختلالات بنيوية، اجتماعيا ونفسيا وسلوكيا.
ومما قد يفسر بشاعة المشهد في إربد، ويميزه عن مشاهد الظاهرة اليومية في مختلف شوارعنا وأسواقنا في كل المحافظات والمدن، هو أن الكتلة البشرية الكبيرة من الشباب الطائش الهائج، من أبطال هذا المشهد، كانوا قد خرجوا جماعة من عشرات المقاهي بعد انتهاء المباراة النهائية في كأس العالم ليل الأحد/ الاثنين، فجاء الموقف فاقعا وصادما إلى حد كبير.
نقول إن هذه الظاهرة ليست جديدة، لكن ذلك لا يقلل من خطورتها وسلبيتها، بل يمكن القول إنها عرض لاختلالات قيمية وثقافية واجتماعية عميقة، يعززها تردي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية والبطالة والفقر والتهميش الاقتصادي. وهي تعكس أيضا حالة الاغتراب، بمفهومه العلمي الاجتماعي، لدى الشباب العربي، بمن فيه الأردني بطبيعة الحال، خاصة أن ظاهرة التحرش الجنسي بالنساء توحد الأمة العربية، وتنتشر في أغلب دولها.
لا يمكن لهذا المقال أن يكون مكانا لدراسة وتحليل هذه الظاهرة بكل أبعادها، وهي مهمة الباحثين والمفكرين، بل وقد كتبت وسطرت الدراسات والأبحاث حول ظاهرة الاغتراب الاجتماعي والسياسي لدى الشباب العربي، وحول تفرعاتها وتجلياتها السلبية؛ من تحرش ونزوع نحو العنف الشخصي والمجتمعي، والتطرف الديني والسياسي، وغيرها.
إلا أن الثابت، وللأسف، أن هذه الدراسات والأبحاث بما حوته من تحليلات علمية وتوصيات وحلول، لا تجد طريقها للهضم المجتمعي والثقافي، وبالتالي تبقى محيدة في العملية التربوية للمواطن العربي، فيما تتقدم لأداء هذه الدور نخب "فكرية ودينية وسياسية" مأزومة أصلا، وتحمل فكرا مشوها ومنتجا لحالة الانفصام الاجتماعي والثقافي والتربوي، لتكون لها الكلمة العليا في العملية التربوية وتنشئة النشء العربي!
لا يمكن رمي قصة التحرش الجنسي بالنساء، سواء فيما حصل بحادثة أربد أو غيرها من حوادث ومشاهد يومية في شوارعنا، على طيش الشباب أو على عامل نفسي أو شخصي هنا أو هناك، بل هي أزمة مجتمع وبنية ثقافية وفكرية، تسمح باستباحة حقوق الآخر، خاصة إن كان أنثى أو طفلا أو ضعيفا أو مهمشا. حيث يتم ذلك وسط تبريرات ومسوغات مشوهة لإيجاد التوازن النفسي "المشوه أيضا"، لدى الفاعل ومستبيح حقوق الآخرين، ووجود تفهم من قبل المحيطين، حتى من غير الممارسين لهذا الفعل الشائن، وحتى المسؤولين عن ردعه في العديد من الحالات، خاصة عندما تنهال الملامة والإدانة للضحية، والمرأة تحديدا، بدعاوى متهافتة وحولاء، تهرب لتبرير الفعل الجريمة، إلى لباس الفتاة أو خروجها من البيت، أو ابتسامتها في الشارع!
في عشرات أو حتى مئات التعليقات على مقطع فيديو إربد على مواقع التواصل الاجتماعي، تظهر بوضوح ثقافة التسامح مع استباحة حرمة وإنسانية النساء، عندما يتناسى المعلقون جريمة المجرم المتحرش، أو يبسطونها، فيما تنهال الملامة والإدانة على الضحيتين اللتين كانتا ترتديان ملابس مشابهة لما ترتديه مئات الآلاف من بناتنا وأخواتنا ونسائنا!
القضية، باختصار، أكبر بكثير من تحرش مراهقين وطائشين؛ إنها أزمة مجتمع.