التحرش.. والنوم في العسل!

لا أعتقد انه كان غريبا رصد ردود فعل كثيرة وواسعة تشكك بالارقام والنسب التي خرج بها اكثر من مسح لمؤسسة مجتمع مدني مؤخرا حول انتشار ظاهرة التحرش اللفظي والجنسي، بل وذهاب العديدين –كالعادة- الى دفن الرؤوس بالرمال، والاصرار على حالة الانكار، باعتبار المجتمع الأردني والعربي مجتمع الدولة الفاضلة، التي يفيض افرادها بالقيم والاخلاق، قبل ان تنقلب الاسطوانة بعد الانكار الى مرحلة تحميل الضحية، وهي المرأة هنا، المسؤولية عن التحرش، بل وقد يصل الامر بالتشفي بها! اضافة اعلان
لسنا معنيين بمحاكمة مدى علمية النسبة التي تخرج بها مثل هذه المسوح والدراسات، ولا منهجيتها فأصحابها اقدر على المحاججة والدفاع عن دراساتهم، لكن أي مواطن لا يحتاج لدراسة ولا لمسح لمعرفة اتساع انتشار ظاهرة التحرش والتنمر على الفتيات والسيدات، وحتى الطفلات منهن، في اسواقنا واماكننا العامة، ما يعكس ترديا اخلاقيا واغترابا لافتا من فئات واسعة من الشباب والمراهقين، ممن لم تستطع المؤسسات المجتمعية، ومن بينها الأسر، على مواجهتها وتغييرها، أو على الأقل الحد منها.
للمتنطحين والرافضين للمس بقدسية موهومة للمجتمع وقيمه بإنكار اتساع ظاهرة التحرش، وسأقصر حديثي هنا على التحرش اللفظي والنفسي بالفتيات والسيدات بالاسواق والاماكن العامة، اقول إن مثل هذا الإنكار وعدم الاعتراف بجريمة مقترفها بحق المرأة والمجتمع، هو ما يشجع استمرار واتساع مثل هذه الظاهرة الحقيرة، التي لا تنجو منها امرأة أو فتاة، غنية أو فقيرة، صغيرة أو كبيرة، محجبة أو غير محجبة، فالمشكلة والعقدة ليست عند الضحية، بل هي عند الجاني والمستهتر والمتنمر والذئب المنفلت من كل أخلاق وقيم.
أعلم؛ أن قضية التحرش الجنسي ظاهرة ومشكلة عالمية، تمارس في العمل ومؤسسات الخدمة العامة والخاصة، وبدرجات متفاوتة من مجتمع وآخر، لكن ثمة ملاحظتين اساسيتين هنا عندما نتحدث عن التحرش كظاهرة عربية، الأولى ان المجتمع في الغرب غير متسامح مع هذه الجريمة، والقانون شديد في محاسبة مقترف هذه الجريمة، فيما لا يكاد يفكر احد بمجتمعاتنا العربية بالتقدم بشكوى قانونية ضد التحرش اللفظي أو الجنسي أو غيره، لأن الضحية ستخرج من القضية خاسرة اجتماعيا حتى لو عوقب الجاني.
الفارق الثاني؛ هو ان التحرش اللفظي، وبأقذع الألفاظ والشتائم ضد السيدات والفتيات في الاسواق والاماكن العامة يكاد يكون ظاهرة متفردة في مجتمعاتنا، وفي الغالب يمارس من قبل الذكور فقط لمجرد التنمر وكجزء من استباحة معتادة للآخر وللمجتمع قابلة دائما للتبرير، بل والتباهي داخل مجموعات الذكور.
وللاسف، أنه كلما زاد التضييق على الأخوات والقريبات في البيت، يكون ذلك مرتبطا بالغالب بتبني الذكر الأهوج لثقافة استباحة الآخر والتنمر بالاماكن العامة على الفتيات والسيدات، خاصة –وهذه ملاحظة لا شك ان لها تفسيرات علمية- عندما يكون هذا الذكر ضمن مجموعة من الأصدقاء في تلك الاماكن، حيث يلاحظ ان التحرش بالاسواق يكاد يختفي عندما يكون الذكر وحيدا، وتكثر ويتم التفنن بالتحرش عندما يكون هناك ذكران أو أكثر من فاقدي القيم والأخلاق!
الدفاع عن المجتمع وسلامته لا يكون بالانكار لمشاكله وأمراضه والهجوم على من يعريها، بل بمواجهة الحقيقة والاعتراف بها، ومن ثم التصدي علميا وجماعيا وبوعي لمثل هذه المشاكل والأمراض لاستئصالها، أو على الأقل الحد من غلوائها وانتشارها.