التديُّن والأمن الوجودي.. علاقة عكسية

أحد أكثر التفسيرات شيوعا للحالة المريعة للناس في منطقتنا هو أن "الناس ابتعدوا عن الدِّين"، ولذلك حل البلاء بهذه الأمة. لكن الدليل يقترح عكس ذلك، كما يؤكد العالِم السياسي رونالد إنغلهارت في مقال حديث. ورأى إنغلهارت، مستشهدا ببيانات "مسح القيم العالمية" في العام 2019 أنه في البلدان الثمانية عشر ذات الأغلبية المسلمة، التي شكلت "استثناء" من بين دول المسح، "ظل الناس هناك متدينين بشدة وملتزمين بالحفاظ على الأعراف التقليدية. وحتى مع السيطرة على التنمية الاقتصادية، تميل البلدان ذات الأغلبية المسلمة إلى أن تكون إلى حد ما أكثر تديناً ومحافظة من الناحية الثقافية من المتوسط".اضافة اعلان
والسبب؟ أن هناك علاقة عكسية بين التديُّن و"الأمن الوجودي"، كما يرى إنغلهارت وعالمة الاجتماع بيبا نوريس في كتابهما "المقدس والدنيوي: الدين والسياسة في العالم" (2004). ويقرر العالِمان أنه "كلما زاد مستوى الأمن الوجودي الذي يمكن أن يقدمه المجتمع، قل احتمال أن يكون أفراده متدينين". ويقترحان أن الدين يؤكد للناس أن "الكون يتبع خطة، والتي تضمن أنه إذا اتُّبعت القواعد، فإن كل شيء سينتهي إلى خير، في هذا العالم أو الذي يليه. ويقلل هذا الاعتقاد من التوتر، ويمكّن الناس من التخلص من القلق والتركيز على التعامل مع مشاكلهم المباشرة".
تؤسس هذه الاقتراحات لـ"نظرية الأمن الوجودي"، الذي يعني "الشعور بأن البقاء آمن بما يكفي لاعتباره مفروغاً منه". وتستند إلى فكرة أن "الدين ينشأ حيث يفتقر الناس إلى الأمن الاقتصادي. وتفسر تراجع الدين في معظم المجتمعات الغنية حيث تتوفر الرعاية الاجتماعية، وبقاءه في المجتمعات الأفقر". وحسب نوريس وإنغلهارت، فإنه "بمجرد أن يزيد التحديث من الأمن الوجودي من خلال تطوير رعاية صحية وشبكات اجتماعية أفضل، تقل حاجة الناس إلى المساعدة النفسية من الدّين". ويلاحظ زولتان شواب في مراجعة لأطروحتهما، أن الأمن الوجودي يتجاوز "مجرد تجميع الثروات والصحة، ليشمل أيضاً عدم وجود نزاعات عسكرية وكوارث طبيعية، وقوة المؤسسات الديمقراطية، وتقليص الفجوة الاقتصادية بين الأغنياء والفقراء". ويستشهد إنغلهارت ونوريس ببيانات "استطلاع غالوب العالمي" للعام 2007 (في 128 دولة)، والذي وجد أنه كلما ارتفع مستوى الفقر (أي ضعف الصحة، وقلة المال للغذاء والمأوى، وضعف إمدادات المياه الجارية، والكهرباء، والهاتف، وانخفاض مستوى الرضا العام عن الحياة) كلما زاد تدين الناس.
من الواضح أن كل شروط غياب الأمن الوجودي حاضرة بقوة في مجتمعاتنا، وأنها تدفعه في الحقيقة إلى التديُّن وليس العكس. ونحن نعرف هذا بلا مسوحات، باعتبارنا مواطنين وشهود عيان ومشاركين في مجتمعات سجل فيها الدين في العقود الأخيرة صعوداً ليس له مثيل في العالم، حتى أنه أول ما يُستحضر بوصفه الحل عند جهة، والمشكلة عند أخرى.
لا يُطرح التديُّن فقط كحل روحي للتوتر النفسي والاطمئنان إلى النهاية الجيدة، غالباً في الحياة التالية، وإنما كحل للمشاكل الدنيوية التي تهدد الأمن الوجودي، بتولية ممثلي الدين المعيّنين ذاتياً الإدارة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. لكن إقحام الدين بهذه الأدوار السياسية/ الأيديولوجية للدين، ساهم عملياً في التوتير العام والمزيد من نزع الأمن الوجودي، بحشد الناس في صراعات دنيوية خالصة على السلطة والموارد والنفوذ. وبالإضافة إلى الاستقطاب والصراعات الداخلية التي تجند فيها الجماعات ذات العناوين الدينية أتباعاً بوعد الخلاص، أصبح العنوان الرئيسي للصراع الدامي في الإقليم دينياً في الأساس: من يقود العالم الإسلامي، السنة أم الشيعة. وفي الطريق، يتم التحالف مع "كفار" وأعداء في الصراع لتأكيد لادينيته الأصلية.
كما تبيّن الأحداث التي تحتاج حتماً إلى مسوحات علمية، فإن "العودة إلى الدين" على طريقة تديين السياسة وتسييس الدين، عقدت المشاكل فحسب ووظفت غياب الأمن في العنف والمزيد من تغييب الأمن لصالح أصحاب مصلحة. ولم تكن المجتمعات العربية في مرحلة النهضة النسبية في أواسط القرن العشرين غير متدينة بقدر ما كان الإيمان مُعطىً مفروغاً منه، لا يتطلب تأكيداً بالإبراز في اللباس أو المظهر. لكن عكس وجهة النهضة والهزائم أعادت السؤال عن الحل المستعصي. واستُحضرَ الدين، أحياناً كحليف للسلطة للإفتاء بقداسة ولاية الحاكم ووجوب طاعته، أو كبرنامج سياسي تحشيدي ضد السلطة. وفي كل الأحوال، لم تحلّ هذه الاستعمالات للدين مشاكل الأمن الوجودي على أي مستوى بقدر ما فاقمتها.