التعلق المرضي بالمحطات المنتهية!

في اللحظة التي تختار فيها أمرا ما، تكون قد وضعت حدودا عميقة بينك وبين أمور أخرى لا تكون قريبة الشبه لما اخترته من ممرات حياتية معقدة. ستكون بالتأكيد مختلفة في جوهرها. لكن، ثمة من لا يريد الاعتراف بهذه الحقيقة، فهو من النوع الذي يريد كل شيء، ويرفض التخلي عن أي مسار قديم، حتى لو كانت هناك مسارات جديدة واعدة. ما أقوله ليس فلسفة عصيّة على الفهم والهضم، بل هي محض حياة نراها بشكل يومي في ما نضطر أن نستدعيه من أمثلة أو أن نختبره من تجارب تجبرنا على أن نتجاوز فيه خبراتنا الإنسانية نحو التكهن أو الاستبصار أو القياس. حسن إذن، لا أظن أن القياس أو الاستبصار قادر على تمثّل الحمق الإنساني الذي قد يبيح إدامة الصلة والتعلق بأشياء أو عادات أو أشخاص من الماضي. حين نريد لحياتنا أن تسير بشكل شبه طبيعي، ينبغي علينا أن نؤشر بشكل صريح وواضح على جميع عوامل القوة لدينا، وأن نؤشر كذلك على عوامل الضعف. التعلق بالماضي سيكون، بلا شك، من قائمة عوامل الضعف التي ينبغي لنا تخطيها، وجعلها تجارب مهمة تثري حياتنا، لا أن تعطلها بالتوقف عندها وعدم القدرة على مغادرة محطتها. في كثير من الأحيان، نختبر سياقات حياتية جميلة، في الحياة الاجتماعية أو العمل، ولكنها تكون غير مكتملة، ومن الجيد أن نضع تحتها خطا واضحا، وأن نغادرها بسلامة قبل أن تصبح متحكمة في جميع مفردات حياتنا، فيصبح التعلق بها مَرَضيا يصعب الشفاء منه. التوقف الطويل عند المحطات المنتهية، سيكون بمثابة حكم صارم بعدم التقدم. مهما كان نوع تلك المحطة، فستؤثر على جميع مناحي حياتنا، وتجعلنا مأسورين لسياقاتها، كما ستؤثر على جميع دوائر اتصالنا، وسوف لن يتبقى لنا أي دائرة أمان نرسو إليها في لحظات الضعف والحاجة. في كثير من الأحيان، تتكفل الحياة بعقابنا على ضعفنا تجاه الماضي والتعلق به، وعلى ما سببناه من ألم لأولئك الذين كانوا يودون أن يكونوا إلى جانبنا، لكننا ماطلنا كثيرا في ذلك، ولم نمنحهم الوقت والاهتمام والإخلاص لكي يفعلوا ذلك، بل احتفظنا بهم إلى جانبنا كـ»مزهريات»، أو لأجل حب التجريب، أو التعود، أو حتى لأمور غامضة يصعب تفسيرها أحيانا. في خضم اختبار حيوات جرداء وقاحلة، لا يمكن أن يتوفر مرشد يضيء خطوتنا التالية، لذلك نعتمد على التجريب، وهو اعتماد غالبا ما يجلب الخيبات، ولكن تلك الخيبات لن تكون خاصة بنا فقط، بل ستتوزع على جميع دوائر اتصالنا من عائلة ومعارف وأصدقاء وزملاء وأحبة. الخيبات، في النهاية، سوف تبني غلافا سميكا حول حياتنا، وسوف تصيبنا بحالة عميقة من البلادة التي يصعب الشفاء منها، خصوصا أننا حينها سنكون قد مزجنا حياتنا بكم هائل من الزيف، بينما الآخرون سيفقدون قدرتهم على معرفة الصدق من الخداع في أفعالنا، ومعرفة الحقيقة من الكذب في أقوالنا، فيخسرون موهبتهم في استشراف دخيلتنا المعقدة! المشكلة الأساسية في العلاقات الإنسانية أن الأشخاص، جميع الأشخاص، يحفظون حكمة أن «حبل الكذب قصير»، ولكنهم يرفضون التمثل بها واعتبارها جزءا من السياق المنتظر إن هم لجأوا إلى الكذب لترميم جوانب مهشمة من حيواتهم. سوف يصرون على الكذب وهم يتخوفون من أن الحقيقة ستظهر في نهاية الأمر! حتى اليوم، ورغم الخبرة الإنسانية الطويلة، ما يزال الكذب والتزييف والنفاق حاضرا في العلاقات، أيّا كان نوعها، كما لو أنه تأكيد على أن الحقيقة وحدها لن تكون كافية لكي ينجح الشخص في أن يكون جزءا من أي مجتمع أو علاقة أو بيئة، لذلك يلجأ إلى الكذب والتزوير لإضفاء مزيد من الهالات على نفسه، أو لإخفاء كثير من التشوهات و»الخربطات» التي يقترفها بشكل يومي. وإذا كان الكاذبون يلونون حياة معارفهم بالسواد، فهذا الأمر ليس كامل الحقيقة المرة، فثمة مأساة أخرى يقترفها أولئك الذين يكونون ضحايا للكذب، إذ أنهم يستمرئون الوهم، ويتواطؤون على أنفسهم، من أجل قليل من السعادة الكاذبة! الإنسان يطيب له أن يتوهم. جميعنا نختزن قدرا هائلا من التمثيل الساخر؛ تمثيل على أنفسنا في البدء والخاتمة.اضافة اعلان