التفكير +18

عِلمياً، وبالشكل الفيزيائي البحت، يلتقي أقصى اليمين مع أقصى اليسار، وهما كذلك متطابقان في "الدوغمائية" التي تطبع أفكارهما، وسلوكهما.اضافة اعلان
لكنه مما يدعو للتوقف والتأمل، والقراءة، هذه "الموضة الحديثة" من الليبرالية التي انتشرت فجأة لأسباب غير علمية، (مستثنيا بالطبع التضحيات الكبيرة التي قدَّمها أصدقائي المتنورون والليبراليون القدامى، على مدى سنوات طويلة وصعبة، والأثمان والكُلف الباهظة التي تحمَّلوها) .. لكنني أقصد هنا موجة الشباب والشابات الذين يفهمون الليبرالية بسطحية تدعو للاستهجان، ويقدمونها للمجتمع كسلوك جريء متطاول على القيم والمواضعات الاجتماعية، ومفرغة من أي محمول فكري أو مشروع حقيقي.
وهذا يعيد للأذهان الموجات العظيمة من الشباب والشابات التي اتجهت إلى اليسار في عهده الذهبي أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات لأسباب لها علاقة بذلك (الانفتاح) الكبير الذي روَّج له اليسار، من اختلاط وحرية وجرأة على النظام الأبوي، وافتتان بذلك الطابع على صعيد الشكل والملابس والموسيقى والاقتراب من الجنس الآخر في زمن محافظ ومجتمع تقليدي،.. وهكذا ولدت طبقة هائلة من اليساريين الذين لم يقرأوا حرفاً واحداً لـ"ماركس"، ولم يعرفوا عن الماركسية إلا ذلك القليل الذي سمعوه في اجتماعات الرفاق على مضض وهم يستعجلون الذهاب الى الجانب (الحرّ) والجانب المتمرد من الفكرة. وظل اليسار الحقيقي محصوراً في بضع مئات من المُنظِّرين، بينما مئات الآلاف من الأتباع حصروه في لحية كثة وقهوة بلا سكّر وشعارات مجوَّفة وتدخين الغليون أو السيجار وشرب الـ .. الخ!
ثمَّ لاحقاً ملَّ الكثيرون من اليسار فذهبوا لأداء العمرة وتحولوا لمتشدّدين!
والمدهش حقيقة في طبقة الليبراليين التي تتشكل حديثاً، بين أبناء الجامعات، ومن هم في أعمارهم، أنَّها تتشكل على الطريقة ذاتها؛ كما ولد اليسار. ولا تجد من يتبنّاها بالفهم والوعي والتأطير. فهي حركة شكلانية هدفها الرئيس الحرية (الحرية كما يفهمها من هم في سن الـ18)، وتتوق للانفلات عن المجتمع!
وهذا أكبر خطأ وقع فيه اليسار، ويقع فيه الليبراليون الآن، (فيما لم يقع فيه الإسلاميون وتفادوه بذكاء) وهو الابتعاد عن المجتمع، حيث لا تخطط التيارات الشابّة الجديدة لحل مشكلات مجتمعاتها بقدر ما تخطط للنجاة من هذه المجتمعات، والخلاص الشخصي بالهروب منها.
أما "طبقة الليبراليين والمتنورين" العتيقة، الأكبر سنّاً وتجربة، فهي تفاجئنا عند كل منعطف بصدمتها بالمجتمع، وكأنها لا تقرأ مجتمعها جيداً ولا تعرفه، وتتعامل مع نفسها فقط، في دائرة ضيقة، بعيدة عما يحدث من "أهوال" في المستويات الأخرى من المجتمع.
وهي كما تبدو "تحسن الظنَّ" كثيراً بالجمهور، وتعتقد أنَّه كلَّه على درجة هائلة وكبيرة من الوعي، وأنَّه كلَّه جمهور اوبرا ومسرح، وأنَّه لا مكان في صفوفه لأصحاب الخرافات و"الثعبان الأقرع"، وأن "الداعشيين" لم يولدوا مثلاً في بيوتنا!
وما أستغربه في خطاب بعض التنويريين، هو مبالغتهم في الخوف على الشعب أو الجمهور من أي خطاب غير خطابهم، كأن المجتمع طفل خداج يجب أن لا يتعرض لتيارات الهواء البارد، وعلينا أن نلفّعه، وندثّره، حتى لا يقع أو يصاب أو "يضحك عليه أحد ويخدعه"!
هذه النظرية هي بالضبط ما كانت تنتهجه بعض أنظمة الاستبداد، حين كانت تحمي الشعب من "اليسار" ومن "الشيوعيين" و"تيارات التنوير"، وتُفهمه أن "هؤلاء" كفّار وملحدون ومخرّبون و..و..و.. وتمنعه من قراءة أدبياتهم ومنشوراتهم أو الاستماع إليهم أو الحديث عنهم!
لذلك يبدو صحيّا، وذكيّا، استضافة أصحاب الخطابين، أو الثلاثة، أو العشرين خطاباً، لوضعهم أمام الناس وجها لوجه، وأمام الجمهور الذي عليه أن يدافع هو عن عقله، في وجه من يريد إعدام العقل!
المهم أن لا يقع الجيل الشاب في أحضان "نظرية" ما، فقط نكاية بالنظرية الأخرى! دون أن يكون قد قرأ كلتا النظريتين، إنما قاس المسافة بينهما بحجم ابتعادها من المجتمع وقيوده.