"التناص في شعر أحمد بخيت".. دمج بين عراقة التراث وملامح الحداثة

غلاف الكتاب- (الغد)
غلاف الكتاب- (الغد)

عزيزة علي

عمان- صدر عن دار فضاءات للنشر والتوزيع، كتاب بعنوان "التناص في شعر أحمد بخيت"، للكاتبة منى عبد الدائم، وتناول ظاهرة بارزة تمثل جانبا مهما من جوانب تجربة الشاعر المصري أحمد بخيت الشعرية، وهي "التناص"، وتجلت هذه الظاهرة ببراعة الشاعر في تنويع مصادر الإغناء الشعري، واستثمارها فيما يخدم إبداعه.اضافة اعلان
تكشف الدراسة عن التنويع في ثقافة بخيت الواسعة، واطلاعه على ثقافات مختلفة، وقدرته على ربط جسور الحاضر بالماضي واستشراف المستقبل. وقد دارت تناصات الشاعر بخيت حول فكرة رفض الظلم والطغيان وتقديس الحاكم العربي، وعبر عن ذلك بتناصه بشكل كبير مع القرآن الكريم الذي منح شعره صورة صادقة.
الكتاب جاء بأربعة فصول وتمهيد، حيث تعرف فيه المؤلفة "التناص" لغةً واصطلاحًا، وتناقش تاريخ التناص، في النقد الغربي، وتتبع نشأة المصطلح عند كل من "كريستيفا، وباختين وبارث"، والتناص في النقد العربي، وأوردت بعض الأفكار النقدية التي تتلاقى مع التناص، وقدمت ترجمة للشاعر بخيت، النشأة، والتعليم، والكتابة الإبداعية، ومؤلفاته، والجوائز التي حصل عليها، ومشاركاته الأدبية عربيا، وما دارت حوله من مقالات.
تحت عنوان "مصادر التناص"، كان الفصل الأول الذي يتكون من ثلاثة مباحث، المبحث الأول: التناص الديني؛ أولاً: التناص مع القرآن الكريم، وثانيًا: التناص مع القصص القرآنية، وثالثًا: التناص مع الحديث الشريف. والمبحث الثاني: التناص الأدبي. والمبحث الثالث: التناص الأسطوري.
فيما ناقش الفصل الثاني "أشكال التناص" ويتكون من ثلاثة مباحث، المبحث الأول: التناص مع الشخصيات التاريخية، والمبحث الثاني: تناص الاقتباس، والمبحث الثالث: التناص الإيحائي، ويستعرض الفصل الثالث وهو بعنوان "آليات التناص" ويشتمل على ثلاثة مباحث، الأول: الاجترار، الثاني: الامتصاص، الثالث: الحوار، فيما يتناول الفصل الرابع "علاقة التناص بالفنون التعبيرية الأخرى" ويشتمل على مبحثين: الأول: عمدت فيه إلى المؤلفة على دراسة اللغة والأسلوب، فأبرزت معجمه الشعري المنتظم من خلال لغة الحياة اليومية، ثم أولت عناية خاصة بجملة من الظواهر الأسلوبية التي برزت في شعر أحمد بخيت وهي: الانزياح والعدول، والتكرار وتناولت منه تكرار الحرف والألفاظ والجمل وشبه الجمل، والاستفهام.
فيما درست الدائم في المبحث الثاني: الصورة؛ اهتمام بإبراز صورة الحاكم العربي والأنظمة العربية، وأيضًا صورة المحبوبة، وثانيًا: الإيقاع؛ إذ درست الإيقاع الخارجي وما فيه من تشكيل موسيقي لحروف الروي ودلالاتها، وفي الإيقاع الداخلي أولت الباحثة عناية خاصة بتكرار الأصوات والقافية الداخلية، ثم بينت دورها المتكامل في خلق النموذج الشعري المناسب للحالة النفسية.
وتعد الدائم أن التناص يشكل المعين الذي لا ينضب بالنسبة للشعراء، إذ لا يمكن لأي شاعر أن يعيش بمعزل عن تجارب الشعراء السابقين، فالشاعر يقرأ لغيره من الشعراء، وهذه القراءة تمده بالمعرفة، ويختزن في ذاكرته ما قرأ، وعند الكتابة يسهم هذا المقروء في تشكيل نصه الجديد، فيستحضر الشاعر ما قرأ ويوظفه بطرق مختلفة، موضحة أن التناص هو "تضمين نص ما في داخل النص الذي ينشئه الكاتب عن طريق الاقتباس أو الإيحاء، ليتشكل النص الجديد، وهو يحمل صفات النص القديم، عبر آليات التناص وهي الاجترار والامتصاص والحوار".
وتبين المؤلفة أن علاقات التداخل النصي تشكل إحدى سمات اللغة الشعرية، مبينة أنها تسعى إلى تلمس مواضع الشعرية وسماتها في تناصات العمل الأدبي من أجل التعرف إلى مدى فاعلية وحيوية التناص، من خلال تحليل النص وتوضيح فاعلية التناص داخله، لافتة الى أن السبب في اختيارها هذا الموضوع هو "الرغبة في الكتابة حول ظاهرة التناص، ودراستها دراسة تطبيقية على أعمال شاعر لم يتناول الباحثون أشعاره بشكل وافٍ، وتسليط الضوء على إبداعه الشعري، الذي تميز بالدمج بين عراقة التراث وملامح الحداثة، ما شكل موروثا شعريا جديرا بالدراسة والاهتمام؛ حيث يعد التناص من مباحث الإبداع في العمل الأدبي وعنصرًا كاشفًا عن شعرية النص.
وعن الهدف من هذه الدراسة، تقول الدائم هو: "التعامل مع النص الشعري لدى أحمد بخيت تعاملا أدبيا نقديا، ورصد مصادر التناص في شعر أحمد بخيت، وبيان مدى انفتاح المتن الشعري على غيره من النصوص، وتفسير إفادته من بعض المصادر في أعماله، والكشف عن آليات استدعاء النصوص، وبيان تقاطعات نصوص الشاعر مع غيره من النصوص وتوظيفها فنيا ودلاليا، واستحضار النصوص الغائبة، والوقوف على البعد الدلالي، واستكناه معاني النص الشعري عند أحمد بخيت من خلال امتزاج نصه بروافد دلالية رفدته بها نصوص أخرى".
وتؤكد المؤلفة أنها اتبعت في هذه الدراسة "منهج الدراسة التحليلية"، الذي يستدعي أبعاد النص الشعري واستقراء أعماله الشعرية جميعها من كل الجوانب، فقد ارتأت الباحثة أن تفيد من غير منهج، وذلك أن منهجًا واحدًا -في ما تعتقد- قاصر عن الإحاطة بهذه الدراسة الشاملة. فقد اتجهت لاستقراء المناهج النقدية المختلفة، وساعدها على استنطاق النصوص من خلال الإفادة من المناهج الأسلوبية، كما أفادت من معطيات علم النفس والمنهج التاريخي وغيرها من المناهج السياقية وغير السياقية، فاعتمدت على المنهج التكاملي، واستعانت على التحليل والتطبيق بمقدمات نظرية موجزة لكل مبحث من المباحث.
وفي خاتمة الكتاب، توضح الدائم أن دراسة ظاهرة التناص في شعر بخيت بينت أن هذه نصوص شكلت لوحة فسيفسائية متشكلة من نصوص أخرى، وذات مرجعيات متعددة، وأبرز ما تناولته في هذه الدراسة هو التطرق لمفهوم التناص لغة واصطلاحًا، وهو كما عرّفته كريستيفا تقاطع داخل النص لتعبير (قول) مأخوذ من نصوص أخرى، ورغم تعدد المصطلحات إلا أن هناك جامعًا يجمعها ويربطها، وهو الكشف عن حالة من العلاقات القائمة بين نص ونصوص أخرى.
وتبين المؤلفة أن التناص، بوصفه تعالق نصوص، يحدث بطرق مختلفة، اتفق النقاد الغربيون على أن تداخل النصوص لا مناص منه للكاتب أو الشاعر، باعتباره حدثا لغويا يتولد من أحداث تاريخية، ونفسية ولغوية، حيث تتناسل منه أحداث لغوية أخرى لاحقة عليه، واحتفى النقاد العرب بمصطلح التناص وبحثوا عن جذوره، ووجدوا في المصطلح من حيث مفهومه تقاربًا كبيرًا مع الطرح القديم لمصطلحات مثل: الاقتباس والتضمين والمعارضة وتداول المعاني، وساعدهم هذا المصطلح على إعادة الحياة لنصوص قديمة، وطفقوا يحللون وفق منظومة الاستدعاء النصي في عملية التناص هذه النصوص الغائبة ويكتشفونها في النصوص الحاضرة لبنات تسهم في إنتاج ما لا حصر له من الدلالات.
وعن الشاعر بخيت، تقول الدائم إنه أظهر بشكل واضح حرصه على توظيف التراث الديني في شعره، فالنصوص القرآنية مختزلة والمعاني المستوحاة من القرآن الكريم كثيرة، والإيحاءات والأفكار متعددة، ولعل ذلك يعود إلى ثقافته الإسلامية، واستحضر عددًا من رموز الشعر العربي، ولم يقتصر استحضاره لهذه النماذج على التقليد والاحتذاء، بل أضاف إليها ما يتلاءم مع تجربته الشعرية، لربط الماضي بالحاضر واستشراف المستقبل، واستطاع أن يمزج الأسطورة بجسم قصائده، بحيث تصبح جزءًا منها مكونًا من مكوناتها، يسهم إدراكه في توجيه قراءة القصيدة وتأويلها، وكانت أبرز الأساطير التي استخدمها أسطورة العنقاء.
وحول التناص التاريخي في شعر بخيت، تشير المؤلفة إلى أن الشاعر أوجد المفارقة بين الحدث التاريخي وتوظيفه، وبين الغاية من استدعائه، ومنح النص الشعري رمزية عميقة، إذ أجاد الشاعر توظيفه في نصوصه، واستقى من التاريخ ما يخدم مقصده الشعري، ليمنحه قيمة فنية كبيرة في النص الشعري، وفتح بذلك أفق التأويل، فإن تناص الاقتباس عنده لم يكن اعتباطيا بل كان لغاية دلالية، وجاءت على شكل محاكاة للنصوص المقتبس منها، ومحاولة منه للتقاطع معها، منزاحًا إلى عالم خاص بقصيدته الجديدة، أما التناص الإيحائي فبين أن الكشف عن دلالة التناص مفتوح على التأويل، وعلى فهم المتلقي، لكن الدلالة الثابتة هي أن التناص يستحضر نصا غائبا لغاية في نص حاضر، ويسهل الكشف عن الحضور، لكن اكتشاف الدلالة يكون سهلاً وقريبًا أحيانًا، ومعقدًا وبعيدًا أحيانًا أخرى، لأن النص حمّال أوجه، وأدوات النقد ترتكز على نظريات متباينة، وتختلف من ناقد إلى آخر.
وعن لغة بخيت، تشير الدائم الى أنها امتازت بالبساطة، واعتمد على لغة الحياة اليومية لبناء إيقاع النص الشعري، وعلى لغة الشعر الرومانسي، وانبثقت مفرداته عن حقل الحب والعشق والحزن والفرح والبكاء وما يرافقه من ألفاظ مستمدة من البيت والشارع، واتصل التناص في شعره بشكل وثيق بالظواهر الأسلوبية، وهي؛ الانزياح والعدول، والتكرار، والاستفهام، ما أعطاه عمقًا في الدلالة وثراء في المعنى. الكلمة في شعر أحمد بخيت تومئ إلى ما وراء المعنى، وجاء الانزياح عن اللغة العادية مناسبًا للتركيب اللغوي العام.
وترى المؤلفة أن الشاعر وظف أسلوب الاستفهام في قصائده، وارتبطت هذه الصيغ ارتباطًا وثيقًا بالحالة الذهنية له، وأصبح كل شيء يثير فيه التساؤلات حول الموجودات والأشياء، لافتة الى أن التناص أسهم بتعدد الصورة وتعدد تشكلاتها، وتوازي الأحداث التي تتمركز حول بؤرة واحدة للحدث الذي يريد الشاعر إيصاله للمتلقي، كاشفًا عنه شدة تفاعله وتأثره بذلك الحدث، والشاعر لا يكتفي بصورة واحدة فقط، بل حرص على أن يقود المتلقي عبر تعدد الصور وتناصاتها إلى مساحة أكبر من مساحات المعنى، وإشراكه معه في كل خفايا الأحداث التي عاشها.
وخلصت الدائم الى أن تجربة الشاعر بخيت وإحساسه ومرجعيته الثقافية كان لها دور كبير في بناء واختيار موسيقا شعره، وشهدت أشعاره تكثيفًا لحروف معينة، وفي مواضع محددة من القصيدة، وهذا التكثيف له وقع نفسي خاص يؤثر في المتلقي فيتفاعل معه وينجذب له من دون أن يجد له تفسيرًا واضحًا، مع بنية إيقاعية أخرى لها دور في بناء الإيقاع الداخلي لنصوصه وهي تكرار الألفاظ، إذ شكلت لازمة موسيقية ونغمة أساسية خلقت جوا نغميا تفاعل مع موضوع القصيدة، خصوصا أن الشاعر انتقى كلماته التي كررها، بحيث تشكل هاجسًا في نفس يحاصره في كل مكان، حاول بهذا التناص تأكيد مغزاه وغرسه في نفس المتلقي، وهو بهذا عزز نصه بنغمات إيقاعية تصور معاناته.