التنافسية الثقافية

انتهى مساء السبت معرض عمّان الدولي للكتاب، حيث بُذلت جهود مشكورة لإنجاح هذه الفعالية الثقافية، لكن ما حجم انعكاسها على صناعة الكتاب والنشر في الأردن؟ فمنذ أكثر من عقدين طرح العديد من الأفكار التي دعت إلى توفير شروط أفضل لجعل عمان بيئة ملائمة ومركزا إقليميا في المنطقة في صناعة النشر، وللأسف لم يتحقق ما يذكر سواء على صعيد البيئة التشريعية أو الإجراءات والتسهيلات الرسمية أو حتى وجود رؤية وطنية لتحفيز هذا النوع من التحول تأخذ بعين الاعتبار التحولات التكنولوجية في صناعة النشر بالاستفادة من الإنجازات التي تحققت في مجال التحول الرقمي.اضافة اعلان
وينسحب هذا الأمر على العديد من الأنشطة والإجراءات التي قد تزيد من جاذبية الأردن وتنافسيته الإقليمية في حقل الثقافة وما يرتبط بها من منتجات تعد اليوم أحد أعمدة الإنتاج العالمي، وللأسف فإن معظم هذه الفرص ضاعت، ومنها على سبيل المثال الفرصة الكبيرة في تحويل الأردن إلى المركز الأول في استقطاب عشرات المنظمات الثقافية والحقوقية والمدنية الدولية والإقليمية التي اضطرت إلى تغيير مقارها في السنوات الأخيرة نتيجة حالة عدم الاستقرار في العديد من العواصم المحيطة إلى جانب عشرات المنظمات التي لم يكن لها مقار في المنطقة ونتيجة ما شهدته المنطقة من تحولات واضطرابات عملت على افتتاح مقار لها.
ومن الفرص الثقافية الضائعة جاذبية عمان والعديد من المدن الأردنية لاستقبال عشرات الآلاف من الأجانب الراغبين في تعلم اللغة العربية والثقافة العربية من صحفيين ودبلوماسيين وناشطين مهتمين بالعالم العربي، فقد شهدت سنوات العقد الأخير طلبا متزايدا على تعلم اللغة العربية من قبل الغربيين والآسيويين في الوقت الذي تراجعت جاذبية المراكز التقليدية التي كانت تسيطر على هذا النشاط وهي دمشق والقاهرة وصنعاء، وكان من المؤمّل أن تحتل عمان مكانة جديدة في هذا الشأن.
تراجع التنافسية الثقافية يرتبط أيضا بما لحق الحضور الثقافي والإبداعي أي في تطوير أجندات عمل تعمل على تعزيز الحضور الثقافي الذي ينعكس على الاقتصاد والإنتاجية وفق المفاهيم المعاصرة للإنتاجية على صعيدي الأفراد والمؤسسات، فعلى صعيد الأفراد تراجع حضور الأردنيين بشكل كبير في الجوائز الإقليمية والدولية، خذ على سبيل المثال جائزة البوكر للرواية العربية، جائزة نادي دبي للصحافة العربية وحتى جائزة مؤسسة عبد الحميد شومان للباحثين العرب التي تمنح من عمان حيث تراجع حضور الأردنيين في الحصول على هذه الجوائز.
أصبحت هناك أهمية بالغة لدمج البعد الثقافي في الاستدامة ليصبح البعد الرابع المضاف إلى الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والبيئية حيث بات البعد الثقافي أحد أبرز الأبعاد في مؤشرات قياس التنافسية العالمية، لما له من آثار مهمة في تكريس قدرة الدول على الانفتاح وخلق بيئة لديها قابلية لفهم التعددية الثقافية بمختلف أوجهها واستيعابها وبالتالي لديها استعداد للتسامح والقبول، ولعل هذا المؤشر اليوم لا يقل أهمية عن المؤشرات الاقتصادية الأخرى في جلب الاستثمار ورؤوس الأموال وتحريك عجلة الاقتصاد.
إن سؤال الثقافة في التنمية الاقتصادية ما زال غائبا ولا يتم التعامل معه بجدية، قد لا تظهر آثار الإنجازات الثقافية مباشرة في الأسواق وفي أنماط العمل وفي الاستهلاك وفي تغيير توقعات الناس، لكن حينما تكون الثقافة بمستوياتها المتعددة المرتبطة بالإبداع والابتكار وتلك المرتبطة بالسلوك اليومي للأفراد وبالمستوى المرتبط بالرموز والبناء المعنوي للدولة والأفراد حاضرة بقوة في السياسات العامة سيحدث الفرق ليس في عقول الناس ومعرفتهم فقط بل وفي جيوبهم أيضا.