التناقض في النظرة العلمانية

د. هاشم غرايبة

كثيرا ما يقع أنصاف المثقفين أي أولئك الذين يعلمون بعضا من معارف الحياة الدنيا، يقعون في تناقض مع أنفسهم، حينما يسارعون إلى الحكم على ما لا يعرفونه، بالقول إنهم لا يؤمنون به لأنه مجرد خرافات أو أساطير، رغم أن البشر تعلموا بالتجربة أنه لا يمكن الوصول إلى مرحلة يقولون فيها قد وصلنا إلى نهاية المعرفة، ففي كل عصر كانوا يظنون ما لا يعرفونه خرافات، ثم يكتشفون كم كان هنالك الكثير مما لم يعرفوه.اضافة اعلان
بداية يجب التمييز بين الأسطورة والخرافة.
الأسطورة لغويا من سَطَرَ أي كتب لذا فهي الحادثة القديمة المحفوفة بالمبالغات حتى الخرافات أحيانا، وتعني أيضا الأقاويل المنمقة المزخرفة التي لا نظام لها، حتى انها تشبه الكلام الباطل، وهي تتناول مختلف النشاطات الاجتماعية من أدبية وحربية وصناعية ودينية.
أما الخرافة فهي على الأغلب أحداث خيالية منسوجة، نقلت بتصرف عبر الأجيال وهي موجودة في التراث العالمي لكل الأمم، ويطلقه العرب على الحديث المستملح من الكذب.
نلاحظ أن لفظة الأساطير ذكرت في القرآن الكريم فيما لم تذكر الخرافات، وذلك لأن الخرافات محض كذب وخيال، فيما الأساطير هي مبنية على أحداث حقيقية، لكن النقل البشري - كما كل التأريخ - أضاف إليها حسب الهوى.
لذلك فكل من أنكر ألوهية مصدر القرآن الكريم، كان يقول إنه يحتوي على أساطير الأولين، ويقصد بالأولين الأمم السابقة التي أنزل عليها كتاب سماوي، لكن أحدا لم يقل أنها خرافات، لأن ذلك يعني أنها مفتراة، وبالتالي تكذيب بمصدرها الأقدم وهو التوراة، وهو الأمر الذي يتجنبونه.
وهذا هو التناقض الأول حيث يُكذّبون بأن الله أنزل القرآن لكنهم يصدقون أنه أنزل التوراة.
لقد التزم المؤرخون الأوروبيون ومنذ القرن الثامن عشر (وهم علمانيون)، بقانون مطبق إلى اليوم ويقضي بأن المصدر الأول للتاريخ القديم هو التوراة، وحيثما وجد تعارض في الحقائق العلمية التي تمثلها المكتشفات الأثرية (الأركيولوجيا) مع النصوص التوراتية، فإن النص التوراتي هو المعتمد.
والطريف أن المعروف المؤكد، أن الأسفار الخمسة الأولى (ربع التوراة ) هي المعترف بها أنها من أيام موسى عليه السلام، وما سواها هي روايات أضيفت بعد السبي البابلي (ومن ضمنها أسطورة أرض الميعاد)، لكن ذلك لم ينتقص من صدقية ذلك القانون، وبقي علماء الآثار يبحثون فقط عما يؤيد تلك الروايات المضافة والتي ترقى إلى تصنيفها كأساطير وخرافات، وبغض النظر عن إيمان العالِم بالله أو إلحاده، فلم يجرؤ أحد على التشكيك بالتوراة.
عمل الباحثون الأوروبيون عقودا طويلة في مصر في التنقيب في آثار الفراعنة علهم يجدون أثرا واحدا يؤيدها بلا فائدة، ونقبوا بعد احتلال الإنجليز لفلسطين وإلى اليوم، فما وجدوا شيئا، واحتل "بوش" العراق لكي يمكن لعلمائه من التنقيب في بابل وغيرها، ولم يكن حظهم بأفضل، بل ظلت المكتشفات الأثرية بعيدة عن إثبات أي رواية تاريخية وردت في الأسفار المضافة.. ومع ذلك ما يزال العلمانيون ينظرون بالتقديس ذاته إلى تلك الروايات، فيما يعتبرون ما أنزله الله في القرآن والمثبت بدرجة قاطعة أنه لم يتم تزويره ولا تغيير حرف واحد منه منذ نزوله إلى اليوم ..يعتبرونه أساطير وخرافات!.
التناقض الثاني هو في الازدواجية والفصام الفكري، ففي أغلب كتابات العلمانيين تجدهم يقحمون أبطال الأساطير في أحداث رواياتهم، بل وأغلبهم يستهل مقالته بمقولة أو موقف لأحد آلهة الخرافة الوثنية، أو أبطال ملاحمهم مثل (جلجاميش) أو (أخيل)..الخ، أو يبني فكرة روايته على حدث خرافي مرتبط بتلك المرحلة المتخلفة من الفكر البشري، ويعتبر عمله هذا إبداعاً تقدميا !!.
ولو أخذنا بمنطقهم هذا في أن الربط بين الماضي والحاضر في حركة تطور الإنسان عبر العصور فعل إيجابي، فلماذا ينظر لمن يستخدم أحداث التاريخ الديني وأشخاصه ومقولاتهم في أعماله الأدبية باستخفاف، ولا يعتبرونه إبداعا متميزا؟.
أليس الدين بحسب فهمهم مجرد خرافات وأساطير؟..وإذاً فهل الأساطير اليونانية أو الهندية إنسانية أكثر، وأهدافها إصلاحية أمثل؟.
التناقض الثالث يتمثل في النظرة المسبقة المتجمدة عند اعتبار القرآن مجرد قصص أسطورية، وإغماض العين عن محتوياته الفكرية والعقدية والتشريعية والقيمية.
القصص القرآني ليس سردا روائيا، ولا سجلاً تأريخيا، لذلك لا تنتمي إلى الأسطورة أو الخرافة من قريب أو بعيد بدلالة أنها تخلو من التتابع الزمني (فيما عدا قصة بني إسرائيل الواردة في سورة يوسف)، ويأتي الحدث ماضيا أو حاضرا أو سيحدث مستقبلا بشكل إشارات لومضات من القصة، مرتبطة بمدلول الفكرة التي تعالجها تلك السورة.
لذلك فالقصص جاءت في سياق عرض المواضيع، ولم تكن موضوعا بذاتها، ونسبة ما شغلته من حيز مطلق مقابل المواضيع الأخرى لا تتجاوز الخُمس.
التناقض الرابع يتبدى لنا عندما نتتبع أبحاث العلمانيين المتعلقة بمحصلة المعارف البشرية عبر العصور، فالملاحظة الأولى عليها والأبرز، خلو البحوث العلمانية تماما من الدراسات المقارنة للمحتوى القرآني ( ولو على اعتباره تراثا بشريا حسب فهمهم) بالمقارنة مع المحتوى المتراكم لكل ماسبق عصر النزول، وقفزهم سريعا عن منجزات الفكر الإسلامي رغم أنه يشكل أطول فترة في التاريخ البشري. ومهما بحثنا فإننا لا نجد أي دراسة جادة مستندة على البحث في المصدر الأصلي (القرآن)، وليست حجتهم في صعوبة فهم لغته مقبولة، فكل ما يتوفر في المكتبات العلمانية مصدره واحد، وهي أفكار الباحثين المنكرين أن القرآن كتاب سماوي، قد يكون بعضهم مؤمنون بوجود الله، لكن المدهش أنهم يصدقون بأن التوراة من عنده أما القرآن فلا، وبلا أي تفسير لهذه القناعة المصنوعة، لتدل على التعصب الذي ينفي الموضوعية، وبعضهم يضطرون إلى التشكيك بوجود الله لتبرير إنكار نزول القرآن من عنده، رغم أن المنطق لا يتقبل الشك كدليل، بل يتوجب على المنكر إثبات العكس.
وهكدا تتهاوى في النهاية حجتهم البائسة في أن محتوياته هي خرافات وأساطير، فيما يفضحها هو عمق ارتباطهم الفكري بالأساطير اليونانية والخرافات التراثية، بل هي تشكل مرتكزات وعيهم الفلسفي.
هذا االفقر المدقع في وجود هكذا بحوث مقابل غزارة البحوث في معارف وفلسفات عتيقة ضحلة، توحي بالإهمال المتعمد، الناجم عن الرأي المسبق الصنع، الذي يوحي بانعدام الموضوعية، لذا فهم يعتمدون المثل.. عنز ولو طارت.