"التنمر الجسدي" سهام لفظية تخترق حياة الطفل وتقيده بحواجز الاكتئاب

تغريد السعايدة

عمان- ما إن تذكر كلمة "التنمر" حتى يبدأ الكثيرون بالبحث في أعماقهم، عما تعرضوا له من تنمر في محيطهم العائلي، الأصدقاء، الدراسة، أو الحارة، ليتبين مدى عمق الأثر الذي ما يزال مغروسًا في نفوسهم، بل وترك ندوبًا في حياتهم العائلية والاجتماعية فيما بعد.اضافة اعلان
وعلى الرغم من أن الخوض في ظاهرة التنمر أمسى أمراً متكرراً، في كل حين، إلا أن قصة ما، لضحية جديدة، قد تعيد تلك الظاهرة للسطح، وتجعل منها مدار حديث عائلات ومختصين، ومنظمات حقوقية، وتصبح قضية رأي عام عبر مواقع التواصل الاجتماعي، كما في قضية الطفلة التي تعرضت للتنمر الجسدي بسبب إصابتها بـ"الشفة الأرنبية"، وتم نشرها في "الغد".
تلك الطفلة، ابنة الثلاثة عشر عاماً، لا ذنب لها إلا أنها ولدت وقد تشوه شكل الفك والأسنان والوجه لديها، وأمست ضحية لتنمر كبير تتعرض له من قبل أقرانها، على الرغم من أنها خضعت لعملية لم تكلل بالنجاح، وبقي الحال على ما هو عليه، لتبقى تلك الطفلة حبيسة ألم ينتزع منها الفرحة في كل تفاصيل حياتها، وقد يكون له آثار نفسية واجتماعية على مر السنوات المقبلة.
اختصاصيو التربية والنمو لدى الأطفال، فسروا التنمر الجسدي بأنه التصرف اللفظي أو السلوك أو الإشارة إلى شخص ما يعاني تشوهات خلقية في الجسد والإدراك في أمر، قد يسبب الضرر النفسي والجسدي للشخص الذي يتعرض له، ويظهر في أماكن تفاعل البشر، كما يطلق عليه؛ أي التجمعات الكثيرة، كما في المدارس والجامعات والأحياء المتقاربة، ومجتمع الأصدقاء.
أم آدم، تتحدث عن تجربتها مع طفلها (8 سنوات) حيث يعاني تشوها بسيطا في مخارج الحروف، بحيث ينطق السين "شين"، وكانت قد عرضته على أحد اختصاصيي النطق، وأوضح لها أن الأمر من السهل علاجه مع مرور الوقت، وعند اكتمال نمو الأسنان الدائمة.
ولكن ابنها لم يسلم من تنمر وتعليق حتى أصدقائه المقربين، الذين يطلقون التعليقات عليه ويقومون بالاستهزاء بطريقة كلامه، حتى وإن كانت على سبيل المداعبة والضحك، ولكنها تترك أثراً في نفسه، يظهر عندما يشتكي لوالدته منهم أو يوجه لها السؤال الدائم "متى أقدر أحكي منيح مثل صحابي؟".
هنا تحاول الأم أن تعزز الثقة لدى طفلها وتظهر له نقاط التميز والقوة لديه، وأنه يتمتع بروح جميلة وحس دعابة ويحبه المحيطون، عدا عن شكله الجميل والأنيق، وأنه متفوق في دراسته، حيث ترى الأم أن كلمات المدح والثناء منها ومن عائلته قد تكون دفعات طاقة إيجابية تساعده على تخطي هذه المرحلة الحرجة في حياته إلى أن يتم علاجها بشكل دائم.
ولكن، ليس جميع الأطفال لديهم أشخاص قادرون على تقويتهم ودعمهم، أو أنهم أطفال من ذوي العيوب الخلقية الدائمة التي لا يمكن تجاوزها، بل وأنها واضحة بشكل كبير وتؤثر في مسار حياتهم اليومية في اللعب والمدرسة، وهنا يجب أن يكون العلاج السلوكي والنفسي موجها للطرفين "للمُتنمر، ومن يتعرض للتنمر في الوقت ذاته".
المستشارة والخبيرة التربوية انتصار إبراهيم أبو شريعة، ترى أن التنمر من المشاكل السلوكية التي ظهرت على الساحة في الآونة الأخيرة، وخاصة تنمر الأطفال على بعضهم بعضا، الأمر الذي يسبب آثارا نفسية كبيرة في الطفل المتنمر عليه، ولذا لا بد من تكثيف دور الأسرة والمدرسة للحد من هذه الظاهرة، خاصة بين طلاب المدارس، والتنبيه على الأطفال بالتبليغ عن أي إساءة يتعرضون لها سواء تبليغ (الأهل، المعلم، الصديق..)، حتى وإن كانوا تحت تهديد المتنمر، والتأكيد على الطفل أن يظل بين زملائه، لأن المتنمر يعتمد على قوته ويعي جيداً قوة المجموعة.
وتعتقد أبو شريعة أن الأهل عليهم أن يكونوا عمليين والبحث عن أساليب تقليدية تساعدهم على تقوية شخصيتهم والثقة بأنفسهم، كما في تسجيله في دورات للدفاع عن النفس، مثل "الكاراتيه والكونغ فو، والتايكواندو"، ما يساعده على التحكم بالذات وانضباطها واحترامها، فالطفل عند شعوره بقوته وقدرته على الدفاع عن نفسه، يقل احتياجه لكي يكون عدوانياً وتزيد ثقته بنفسه، ويجب التحدث مع الطفل بشكل مستمر والاستماع له جيداً، والتعاطف معه ومع مشاعره وإظهار عدم الرضا لما حدث له من معاملة سيئة، ودعمه ومساعدته.
بيد أن أبو شريعة ترى أنه من الأولى لدى الأهل والمجتمع والمدرسة أن يكون هناك "وقاية قبل العلاج"، وذلك من خلال زيادة الإشراف المدرسي على الأطفال، ووضع العقوبة للمتنمرين المخالفين، وعدم التهاون في ذلك، وعلى المدرسة القيام بعمل تدريبات لإيجاد نوع من الأمان للأطفال في المدرسة، وإيجاد الطرق غير العنيفة لحل الصراعات بين التلاميذ، وعلى المرشد التربوي أن ينظم اللقاءات والورش التدريبية للطلاب بشكل مستمر، يكون التنمر أحد مواضيعها.
الاستشاري والاختصاصي النفسي الدكتور موسى مطارنة، يرى أن التنمر سلوك عدواني ليس كالعدوانية العادية، بل هو سلوك مبطن يقوم على السيطرة والإساءة، والمتنمر عادةً يكون ذا سلطة، بحسب موقعه، سواء كان طالبا، يافعا، بغض النظر عن عمره، ويكون له أتباع، وبالتالي يفرض سلطته وسيطرته على مجموعة كبيرة.
ويؤكد مطارنة أن المتنمر هو مريض نفسي ولديه اضطرابات نفسية، كما هو الحال لدى المتنمر عليه الذي سيعاني أعراضا وتبعات نفسية عليه، تؤثر في شخصيته، لذلك يعد هذا الأمر من أخطر السلوكيات، وأصبح التنمر الالكتروني من أكبرها، على الرغم من تعدد أشكال التنمر.
الطفل الذي يتعرض للتنمر سيكون ضحية كبيرة في المجتمع، ولا يستطيع البوح والتكلم، لخوفه من المتنمر، ويحاول أن يبتعد عن هذا الأمر من خلال تغيبه عن المدرسة، على سبيل المثال، أو الابتعاد عن التجمعات الاجتماعية، والانطواء، وهنا على الأهل أن يراقبوا أبناءهم، وأن يلتمسوا تلك الأعراض لديهم، حتى وإن اضطر الأمر إلى مراجعة مختصين لعلاج الطفل، كما يرى مطارنة. وتشير أبو شريعة إلى أهمية أن يعمل المربي والمعلم على تعليم الطفل الحدود الجسدية، وأن يعرف المسافة التي يجب أن توجد بينه وبين أي شخص يشعر بأنه يريد الإساءة له، والمسافة هذه تعني أن يرى الجسم الذي أمامه من رأسه إلى قدمه، دون تمييز وتنمر، كما أن الدور الأسري يتمثل بالوقاية من التنمر، من خلال إقامة الأب والأم لقاءات مع أفراد الأسرة لعرض مشاكلهم، والتركيز على إيجاد واقتراح حلول لها، ما يعزز الشعور بالانتماء للأسرة ويقوي الشعور بعدم الضعف والقوة، وشعور الطفل أن لديه من يلجأ إليه في حل المشكلة، سواء كان الطفل هو المتنمر أو ضحية التنمر.
كما تشدد أبو شريعة على الأسرة بضرورة مراقبة اختيار ما يشاهده الأطفال في التلفاز أو وسائل التواصل المختلفة، ومنع الألعاب الالكترونية التي تتضمن العنف، الذي يغذي سلوك التنمر لدى الطفل، والتحذير من استخدام عبارات مثل "أنت أفضل طفل في الدنيا، أنت أسوأ طفل في هذا العالم"، في داخل الأسرة الواحدة بالأخص، حيث إن تكرارها للطفل يجعله ضحية في المستقبل سواء كان متنمراً أو متنمراً عليه، والبحث عن بدائل إيجابية لتعديل السلوك بدلا من الضرب والتعنيف.
ووفق مطارنة، فإن من أخطر نتائج التنمر الجسدي الإحساس بالنقص الذي يتولد لدى الطفل الذي يتعرض للتنمر، والإحساس بالدونية والاكتئاب الذي قد يقوده إلى الانتحار، بعد حلقات كثيرة من الضغط النفسي والتوتر والخوف، مشدداً على دور البيئة المدرسية في حماية وعلاج الطفل في هذه المرحلة، كونها البيئة التي يتواجد فيها الطفل وينمو في مراحله العمرية المختلفة، ويجب تأهيل الأطفال ليكونوا سويين وإيجابيين، سواء أكان "متنمرا أو متنمرا عليه" لإزالة ترسبات الحالة النفسية التي مر بها الطفل عن طريق تدريبه على مهارات حياتية متوازية.