التنمية والسحر

المفارقة أن نطرح اليوم قصة قديمة حول الفرق بين السحر والعلم، ولكن هذه المرة في التخطيط للتنمية وفي مطلع القرن الحادي والعشرين وفي بلد أكثر ما يتباهى به جامعاته ومراكزه البحثية؛ واهم ما يفخر به على الإطلاق انه استطاع محاربة الأمية والجهل وأنجز في ذلك ما عجز عنه الآخرون؛ فلقد وقعت التنمية الوطنية كثيرا ضحية سحر الأرقام وزيف الدراسات الجاهزة التي تثير الخيال وتحجب النظر عن رؤية الحقائق والوقائع كما هي.اضافة اعلان
تنسحب هذه الظاهرة على مستويات متعددة من الأنشطة التنموية بدءا من دراسات الجدوى للمشاريع الصغيرة التي تمولها مؤسسات تمويلية أنشئت تحت لواء معركة مكافحة الفقر والبطالة وتقدم قروضا مرهقة لفئة متعبة، وغالبا ما تأتي حسابات البيدر مفارقة لحسابات الحقل، مرورا بأرقام ومؤشرات التنمية المحلية ودراسات مشاريعها التي تتم عن بعد، وصولا إلى دراسات المشاريع الاستراتيجية والكبيرة، ولدينا خبرة واسعة لعشرات الدراسات دفعت ثمنها البلاد بفشل العديد من المشاريع وتعثر مشاريع اخرى، وتوقف أخرى قبل انطلاقها حينما يكتشف في اللحظة الأخيرة عدم صدقية هذه الدراسات وموضوعيتها او حتى عدم جديتها.
نأخذ على سبيل المثال دراسات قطاع الطاقة وما ترتب عليها من قرارات استراتيجية خطيرة، ودراسات قطاع الاسكان وما ارتبط بها من انشاء ما سمي حينها مدنا وحتى قضايا أبراج العاصمة والدراسات التي روجت لمفاصل مهمة في تنمية الموارد البشرية، في المقابل تم إغفال مئات الدراسات التي كان من الممكن ان تشكل الارضية الحقيقية لإحداث اختراقات اقتصادية ومجتمعية مهمة.
يقال في الماضي ان أدوات الساحر والعالم تتشابه، وعانى العلم من هيمنة السحر حتى انفك عنه بعد صبر ومعاناة، فمجرد وجود دراسة لفكرة ما أو مشروع ما يصمت الجميع وتعطل الخيارات الأخرى، أما سحر الأرقام والمؤشرات فلا ينافسه دليل أو محاججة اخرى، ببساطة أصبحت الدراسات الفنية ودراسات الجدوى والدراسات البيئية وغيرها من مجالات تخدم التنمية مجرد نزيف للورق والحبر كما هو الحال الخدمات الاستشارية ومعظمها تقدم من القطاع الخاص الذي للأسف لم يستطع بناء ثقة ومصداقية علمية ومجتمعية في هذا المجال، في المقابل نجد أن الادارات الرسمية وهي المستهلك الأكبر لهذه الدراسات والاستشارات تشترط مجرد الوجود الشكلي لها، والعجيب احيانا ان يقال ان هذا المشروع لا يمكن ان يتقدم الا بوجود دراسة بيئية على سبيل المثال وبالفعل يتم اعداد الدراسة ولا يؤخذ بتوصياتها، المهم ان تكون موجودة شكلا.
هناك حاجة وطنية لتطوير مرفق الدراسات التنموية المرتبطة بدعم القرار التنموي وحوكمتها، بشكل يبقي مساحة واسعة للقطاع الخاص ويجعل المؤسسات الاكاديمية والنقابات شريكا فاعلا وحقيقيا فيها، وفي نفس الوقت يضمن جودة هذه الدراسات ورشدها، ويدفع الى المزيد من الاعتماد الراشد عليها في بناء السياسات واتخاذ القرارات، هذا الامر يحتاج الى التفكير بحزمة من السياسات والقرارات لحوكمة هذا الموضوع
لا تنمية حقيقية بدون معرفة، ولا معرفة بدون دراسات وأرقام، ولكن الطامة الكبرى حينما يختلط السحر بالعلم وتتحول التنمية إلى أحاجٍ وألغاز.