"التهرب الضريبي" والخطاب الرومانسي

لا أحد يُنكر بأن عملية مكافحة التهرب الضريبي، معقدة وتمر بتعقيدات كثيرة، تتداخل فيها الكثير من عوامل الشد العكسي، رغم خطورتها ونتائجها السلبية على الوطن ومن قبله المواطن.. وحتى هذه اللحظة يبدو أن محاربة هذه الجريمة ما تزال تتسم بحديث نظري نوعا ما. فحكومة النهضة، منذ بدء تشكيلها في بداية حزيران العام 2018، كانت تمتاز بسمات من قبيل: "ذر الرماد في العيون"، والمماطلة، والتسويف، وهذه السمات أصبحت عند غالبية الشعب الأردني شبه "يقين"، حيث لسان حاله بات متأكدا من أن هذه الحكومة، ومن خلال إجراءاتها وقراراتها لا تهدف إلا لذلك، لكن في الأيام الأخيرة، وخصوصًا أواخر أيام فرض حظر التجول، جراء انتشار فيروس كورونا المستجد، وما بعدها، أضافت الحكومة لسماتها الرئيسة، سمة أخرى، لا تقل أهمية عن سابقاتها، وهي "التشويق". على رأي المثل الشعبي "كل ما دق الكوز بالجرة"، ترى الحكومة تخرج بتصاريح، أقل ما يُقال عنها بأنها نارية، إلا أنها كانت دائمًا تُضيف إليها، كليمات أو عبارات رنانة من قبيل أنه سيتم الكشف عنها خلال أيام قليلة، أو في الأشهر المقبلة.. فالحكومة منذ أن اعتلت "الدوار الرابع"، لا تتقن إلا تلك الفنون، إن جاز التعبير أن نُطلق عليها بأنها "فنون". مع فارق التشبيه، وكأن الأردنيين ينتظرون ثبوت رؤية هلال العيد أو حلول شهر رمضان المبارك، عندما قدم رئيس حكومة النهضة عمر الرزاز، في كلمة متلفزة يوم الأحد الماضي، وعدًا لمواطني المملكة، مفاده أن حكومته سـ"تكشف للرأي العام والمواطنين، خلال الأيام المقبلة، عن جميع إجراءاتها وجهودها في حماية المال العام، والأرقام الاقتصادية والمالية المتعلقة بها". صحيح بأن مصطلحي المكاشفة والشفافية، اللذين يتحدث عنهما الرئيس كثيرًا هذه الأيام، يُعتبران ركنين أساسيين بالمساهمة في الاستقرار وزيادة الثقة بمؤسسات الدولة، ومن قبلها القضاء على فجوة عدم الثقة بالحكومات المتعاقبة، منذ أمد بعيد... إلا أن معظم الشعب يكاد يجزم بأن الحكومة لن تجرؤ أو تقوى على ذكر قيمة المنح والمساعدات التي حصلت عليها، سواء في الفترة الحالية، أو خلال فترات سابقة، أو كذلك قيمة ما حصلته جراء قضايا التهرب الضريبي والجمركي. لكن ستكون حكومة عمر الرزاز جريئة، لا بل وجريئة جدًا، في عملية الكشف عن القروض والفوائد المترتبة عليها، لكنها وفي نفس الوقت لن تستطيع أن تكشف عن آلية سدادها أو حتى التلميح إلى طرق سدادها، وما يتبعها من قرارات وإجراءات، ستطال الشعب الأردني بأكمله، من أقصى شماله إلى أقصى جنوبه. وما يدل على صوابية هذه الكلمات، هو ما صرح به أكثر من مسؤول، وفي أكثر من مناسبة، بأن حجم التهرب الضريبي يبلغ مليار دينار سنويا، إلا أن الرئيس الرزاز قال، خلال كلمته المتلفزة، إن قيمة القضايا المنظورة أمام القضاء بلغت 88 مليون دينار، وذلك منذ بداية العام 2020 وحتى أوائل الشهر الحالي، أي خلال ستة أشهر. ورغم إشارة الرئيس إلى أنه في العام الماضي تم تحويل 33 ملفًا إلى هيئة النزاهة ومكافحة الفساد، وكذلك 20 ملفًا إلى القضاء، لكنه لم يُفصح عن حجم المبالغ في هذه القضايا.. ما يضع أكثر من علامة استفهام وتعجب على ذلك. واللافت للنظر أن أكثر من وزير ومسؤول رسمي، يخرج علينا كل فترة وأخرى، ليقول لنا بأن هناك المئات يطالبون بإجراء تسويات بقضايا تهرب ضريبي، لكنهم لا يُفصحون عن قيمة المبالغ المترتبة على هذه القضايا، وكان آخرها تصريحات لمدير عام دائرة ضريبة الدخل والمبيعات حسام أبو علي، يوم الأحد الماضي، والتي أكد فيها "أن هناك 857 طلب تسوية ومصالحة قُدمت من مكلّفين للجنة التسويات والمصالحات، تمت دراسة 752 طلبا منها حتى الآن". وحتى لا يتفاجأ المواطن الأردني، أو يُبالغ في مدح الحكومة أو "التسحيج" لها، جراء ما يتم الإفصاح عنه بأن هناك المئات من قضايا التهرب الضريبي، يُطالب أصحابها بإجراء تسويات، فإن بعض تلك القضايا لا تتجاوز قيمتها مائة دينار.. وللقارئ أن يتخيل كم هي التكلفة المادية، المترتبة على هذه العملية، من تفريغ كوادر ضريبية ومركبات وأجهزة حاسوبية ومصروفات أخرى، يتم استهلاكها جراء معالجة قضايا، المبالغ المالية المتحصلة منها، لا تُغطي نفقات تكلفتها!.اضافة اعلان