التوازنات الجيوسياسية وتفسير اندفاعات تركيا في الخارج

1
1

تقرير خاص - (أحوال تركية) 25/5/2021
غالباً ما تثار قضية تغيير علاقة تركيا مع الغرب ابتداءً من العام 2003 عندما تولى حزب العدالة والتنمية السلطة. والحجة هي أنه من خلال تغيير الاتجاه السياسي داخلياً، ابتعدت أنقرة عما كان يأمل الغرب في تحقيقه فيما يتعلق بعلاقاتها مع تركيا.اضافة اعلان
منذ العام 2003، عززت تركيا نفوذها فعلياً في جميع المناطق الجغرافية السياسية المهمة على حدودها: البحر الأسود، وجنوب القوقاز، والبلقان، والبحر الأبيض المتوسط، وسورية والعراق.
ولا توجد قوة عظمى واحدة في جوار تركيا، ما يفتح الباب لمزيد من المشاركة الاقتصادية والعسكرية التركية على طول حدودها. وحتى روسيا، التي يمكن القول إنها القوة الأكبر في الجوار، لم تستطع منع تركيا من تقديم دعمها الحاسم لأذربيجان خلال حرب كاراباخ الثانية الأخيرة، وحيث تتمركز القوات التركية الآن على الأراضي الأذربيجانية بجوار روسيا.
يظل السبب الحقيقي لانخراط تركيا المتزايد في عدد من المناطق هو الانهيار السوفياتي، على الرغم من أن ذلك الانخراط حدث خلال فترة أطول مما توقع العديد من المحللين. وقد استغرق الأمر تركيا عقوداً لبناء موقعها الإقليمي.
والآن، في العام 2021، يمكن قول إن أنقرة قد نجحت في هذا المشروع. قد شقت ممراً برياً مباشراً إلى بحر قزوين (عبر ناختشيفان الأذربيجانية)، وزادت من تواجدها العسكري في البحر الأبيض المتوسط، وهي تعد شمال سورية والعراق أراضي يمكن أن توفر عمقاً استراتيجياً للدفاع عن الأناضول.
لعل أحد العناصر الكاشفة في سياسة أنقرة الخارجية هو أن الجغرافيا ما تزال تسيطر على تصور الدولة لنفسها ومكانتها في العالم، ربما أكثر من أي دولة كبيرة أخرى. وبدلاً من الارتباط بالمحور الغربي فقط، اتبعت تركيا خلال العقدين الماضيين نهجاً متعدد النواقل في الشؤون الخارجية.
وفيما يتعلق بعلاقة البلد بالمحيط الأوروبي، تشبه تجربتها تجربة روسيا في أن كليهما استوعب نفوذاً غربياً واسعاً، سواء في المؤسسات أو السياسة الخارجية أو الثقافة، وذلك نظراً لأن نموذج السياسة الخارجية متعدد الاتجاهات يوفر مساحة أكبر للمناورة والمكاسب الاقتصادية ونمو القوة الجيوسياسية. وقد أراد كلا البلدين التحرر من نهج المحور الواحد في السياسة الخارجية.
ولكن، على المستوى الواقعي، لم تُتح لتركيا ولا لروسيا فرصة لكسر اعتمادهما على الغرب تماماً. كان الغرب ببساطة هو القوة الأكبر التي يدور الاقتصاد العالمي حولها من خلال القارة الأوروبية والولايات المتحدة.
مع ذلك، لكلتا الدولتين مناطق نفوذ في عمق آسيا والشرق الأوسط، بالإضافة إلى مطامح جيوسياسية، بينما يعد هذا النوع من التفكير الجيوسياسي مناقضاً لمصالح الدولة في المنظور الأوروبي -خاصة وأن الغرب في نظرته الجمعية لم يعد أبدا تركيا أو روسيا أوروبيتين بالكامل.
لطالما سعت الدولتان إلى اتباع نقاط ارتكاز جيوسياسية بديلة، لكنهما واجهتا صعوبة في تنفيذها. ولم يثبت أي قطب آسيوي أو أفريقي أو أي قطب جيوسياسي آخر أنه كافٍ لتمكين تركيا أو روسيا من تحقيق التوازن الكامل مع الغرب.
لا عجب إذن في أن تركيا كانت تبحث بنشاط خلال العقدين الماضيين عن محاور جيوسياسية جديدة تخدمها لتحقيق أهدافها الجيوسياسية. ولذلك، كانت العلاقات الوثيقة مع روسيا -التي لم تُسر المراقبين الغربيين- بالنسبة لأنقرة وسيلة لموازنة اعتمادها التاريخي على الجغرافيا السياسية الأوروبية.
يمكن لنموذج السياسة الخارجية نفسه أن يفسر التفكير الجيوسياسي لموسكو منذ أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، عندما تطورت علاقاتها مع الدول الآسيوية بسرعة كبديل للاعتماد على الجغرافيا السياسية الغربية والتعلق بها.
وهكذا نأتي إلى المحور الأول في مسار السياسة الخارجية التركية: أن تنأى أنقرة بنفسها عن الغرب بهدف قطع هذه العلاقات بالكامل في نهاية المطاف. لكنه احتمال تدرك أنقرة تبعاته، ولهذا تسعى لابتزاز أوروبا وتعزيز مكاسبها كهدف أساس.
أما قطع العلاقات مع "الناتو" فهو ليس خياراً بالنسبة لتركيا، لأن هدفها هو موازنة علاقاتها العميقة مع الغرب، والتي لم تنتج الفوائد التي كانت تأمل فيها، مع سياسة أكثر نشاطًا في المناطق الأخرى. ومن هنا جاءت عودة تركيا إلى الشرق الأوسط.
ليس محور تركيا في الشرق الأوسط (الذي دافع عنه وزير الخارجية السابق أحمد داود أوغلو) تطوراً استثنائياً في السياسة الخارجية للبلاد. فخلال الحرب الباردة، عندما كان تركيز تركيا على المحور الغربي قوياً، روج رئيس الوزراء اليساري، بولنت أجاويد، لفكرة انتهاج سياسة خارجية "تتمحور حول المنطقة".
وكان الهدف الرئيسي هو أن أنقرة يجب أن تسعى إلى تنويع علاقاتها الخارجية بما يتجاوز ثباتها الغربي التقليدي، ما يعني انخراطاً أعمق في الشرق الأوسط والبلقان.
في الأعوام 1974-1975، حاول نائب رئيس الوزراء التركي، نجم الدين أربكان، تحويل أنقرة نحو العالم العربي. وكانت هناك محاولات لبناء علاقات أوثق مع السوفيات. ولكن، لم يتم خلال فترة إعادة توجيه السياسة الخارجية هذه اتخاذ أي خطوة لقطع العلاقات مع الغرب. واعتقد السياسيون الأتراك في ذلك الوقت أن تنويع العلاقات الخارجية من شأنه أن يفيد موقع البلد في محيط أوروبا المطل على الشرق الأوسط المتقلب.
على عكس الاعتقاد بأن أتاتورك كان مهتماً فقط بالمحور الغربي لتركيا، كانت للبلد تحت قيادته علاقات وثيقة مع دول الشرق الأوسط المجاورة، كما كان ذلك ضروريا بالنظر إلى الوزن الجيوسياسي لتلك الدول في ذلك الوقت. وهكذا استضاف شاه إيران، رضا بهلوي، في العام 1934 ووقع في العام 1937 اتفاقية عدم اعتداء مع إيران والعراق وأفغانستان.
كان السعي إلى انتهاج سياسة خارجية متعددة الاتجاهات هو السمة المميزة للفكر السياسي التركي. وحتى خلال العهد العثماني، عندما كان لا مفر من اتخاذ سياسة خارجية تتمحور حول أوروبا، سعى السلاطين إلى إيجاد بدائل لاعتمادهم على بريطانيا العظمى وفرنسا.
بعد الحرب الكارثية مع روسيا 1877-1878، بدأ السلطان عبد الحميد جهداً حذراً لتحقيق التوازن من خلال بناء علاقات أوثق مع الإمبراطورية الألمانية -وهو اتجاه أسهم في التحالف الألماني التركي الذي تم تشكيله خلال الحرب العالمية الأولى.
بالعودة إلى زمننا الراهن، يشكل العامل الصيني عنصراً مهماً في إعادة تشكيل العلاقات التركية الغربية. ويجلب المحور الآسيوي وعوداً اقتصادية ويزيد من قدرة أنقرة على المناورة في مواجهة القوى الكبرى مثل روسيا والاتحاد الأوروبي. ويتوازى ذلك مع صعود "الأوراسية" التركية، التي تتشابه تطلعاتها مع تلك التي حفزت روسيا على مدار العقد الماضي أو نحو ذلك.
يمكن وصف سياسات تركيا تجاه الغرب والمشكلات المستمرة في العلاقات الثنائية بأنها معارضة داخل التحالف بدلاً من كونها محاولة للتحرر من الغرب. ومن خلال وسائل مختلفة، تسعى تركيا جاهدة إلى تعزيز موقعها داخل الناتو. صحيح أن معارضة تركيا للغرب داخل الحلف اشتدت في الأعوام الأخيرة بشكل ملحوظ، لكنها لم تتجاوز نقطة اللاعودة.
تدرك أنقرة جيدا أنها ما تزال حليفاً مهماً للغرب. وفي حين أنها تبدي نفوراً ظاهرياً من الغرب لأهداف مرحلية تتعلق بتحقيق مكاسب عاجلة، إلا أن هناك المزيد من الحيثيات والتفاصيل في قصة علاقة تركيا مع الغرب، والتي تبقى الجغرافيا السياسية العامل الأهم فيها.