الثبات على المبدأ والتصلب غير المحسوب

للمعضلة الايرانية جوانب متعددة؛ بعضها محق بالنسبة لإيران، وبعضها الآخر -وبالنسبة لايران ايضا- يفتقر إلى المعالجة الواقعية الرصينة التي تصون الحق من دون الانزلاق في مهاوي المطبات الدولية التي تسهل مهمة الخصم، وتضعف موقف صاحب الحق، واحيانا تحوله من مظلوم الى ظالم.

اضافة اعلان

المطبات الدولية التي وقع فيها الرئيس الايراني، محمود أحمدي نجاد، والتي اصبحت جزءا لا يتجزأ من المعضلة ثلاثة: قول الرئيس الايراني بأن اسرائيل يجب ان تمحى من الوجود، وانكار الهولوكوست وتنظيم مؤتمر لهذه الغاية، ثم تصريحه مؤخرا ان المشروع النووي الايراني اشبه بقطار يمضي بلا كوابح ولا يمكن إيقافه.

يجب ان نذكر ان الحملة على ايران، والتركيز الاسرائيلي الذي يجد تأييدا في اوساط مهمة غربية واميركية على الخطر الايراني، يسبقان زمنيا كل هذه المطبات، ويسبق تولي الرئيس نجاد لزمام السلطة. فقد بدأت الحملة منذ سقوط نظام الشاه وقيام نظام الحكم الديني الجديد الذي اتخذ موقفا معاديا لاسرائيل، بالرغم مما عرف في حينه من ان اسرائيل زودت ايران بقطع غيار ومعدات عسكرية خلال الحرب العراقية-الايرانية. وقد فاقم الامر تحالف ايران الوثيق مع سورية، وتبني ايران الثورة لايديولوجيات راديكالية معادية للولايات المتحدة والغرب، وبالتالي اتهام ايران بدعم الارهاب او حتى تبنيه، ودعم ايران لحزب الله عبر التحالف السوري.

وبعد انحسار الحماس الثوري، وظهور تيارات مالت نحو الاعتدال في عهد الرئيس خاتمي بشكل خاص، وبعد الحديث عن الوفاق والحوار بين ايران والغرب، ظهر الرئيس أحمدي نجاد معبرا عن نماذج عديدة من المجابهة والتصلب، وعن طروحات فاجأ بها خصومه ومؤيديه على حد سواء.

فلم يعد من الممكن بعد الدعوة إلى "محو اسرائيل عن الخريطة" مناقشة حق ايران في امتلاك طاقة ذرية، حتى لو تأكد انها للأغراض السليمة البحتة، بعيدا عما اعتبره الجانب المقابل نوايا مبيتة لإبادة اسرائيل؛ اي انه لم يعد بالإمكان فصل العنصر السياسي عن العنصر التقني القانوني البحت في مثل هذه المسألة. فالحديث عن مشروع نووي سلمي يثير الشك حول مشروع نووي عسكري عندما تكون الخلفية دعوة إلى محو اسرائيل عن الخريطة؛ فأين لهذا المشروع ان يجد طريقه نحو التحقيق او حتى القبول؟

وما كادت اصوات هادئة في ايران تنجح في تخفيف وطأة الحديث عن ابادة اسرائيل، وتنسب ذلك إلى عدم توفر الخبرة السياسية لدى رئيس شعبي جديد، حتى كان انكار الهولوكست؛ فعادت زوابع الجدل تتأجج من جديد.

ولان لاستخدام القوة ضد ايران عواقب وخيمة جدا يعرفها الجميع، بمن فيهم من يلوحون بالخيار العسكري باستمرار، فقد نشطت الديبلوماسية وما تزال، لكنه لا يتوفر الدليل حتى الان على الاقتراب من الحل. فلا ايران ادركت مخاطر اطالة الازمة، ربما لمعرفتها بصعوبة الخيار العسكري؛ ولا دليل على ان القوى الغربية مستعدة، تحت اي ظرف من الظروف، للسماح لايران بالمضي قدما في برنامجها النووي، سواء أكان لغايات سليمة بريئة ام لغايات عسكرية.

بالعودة إلى الماضي غير البعيد، نجد حالة مشابهة، فلماذا لا يستفاد من دروسها؟

كما يقال الان، فإن مغامرة عسكرية ضد ايران ستأتي بعواقب مدمرة على المغامر، وعلى المستهدف، وعلى المنطقة بأسرها. وقد قيل الشيء ذاته عن الحرب على العراق، واعتقد كثيرون ان هذه الحرب لن تقع بسبب التخوف من نتائجها الوخيمة. الاهم من ذلك ان الرئيس العراقي الراحل، صدام حسين، والذي كان الهدف الرئيس لتلك الحرب، اعتقد هو ايضا ان الحرب لن تقع بسبب المعارضة الرسمية في مجلس الامن، والمعارضة الشعبية في اوروبا والولايات المتحدة، فلم يعمل على استثمار كل فرصة ديبلوماسية لإخراج نفسه وبلده من المأزق. ومن ثم وقعت الحرب وكانت كارثة بكل المقاييس.

ولا بد من الاعتراف بأن الخروج من المأزق الايراني قد يكون اسهل من الخروج من المأزق العراقي، فالعراق كان مستهدفا ولم يكن امامه اي سبيل آخر. ولكن لان التجربة العراقية ما تزال تلقي بكل ظلالها الكئيبة على المسرح الدولي وعلى المنطقة، ولان اي مغامرة عسكرية اخرى قد تأتي على كل ما تبقى، فإن مهمة الديبلوماسية الايرانية للخروج من المأزق قد تكون اسهل، ولذلك يجب استثمارها ليكون بإمكان ايران تفادي ضربة عسكرية.

اما اذا استمر التصلب، فليس هناك ما يضمن عدم وقوع حرب على ايران -والنذر تظهر كل يوم- بالرغم من كل المخاطر المرتقبة. ويجدر ان لا يستكين المستهدف الى منطق خطر الحرب على بادئها، لان الحرب ان وقعت ستدمر هدفها ايضا، وستلحق بإيران من الضرر ما يفوق منافع البرنامج النووي بكثير(الذي ستدمره الحرب على اي حال)، وما يفوق الانتصارات المعنوية التي قد يحققها التصلب في المواقف الوطنية، وعدم الانصياع للضغوط. الا تقتضي الحكمة ان لا تكون لينا فتعصر، ولا صلبا فتكسر؟

من حق ايران ان تشكو او تحتج على المعايير المزدوجة، وعلى معاملتها بغير ما تعامل به اسرائيل او كوريا الشمالية، ولكن عالم هذا الزمان لا يخضع للقانون او لمعايير العدالة، وهذه حقيقة على الجميع ان يتكيف معها حتى تمر.

الثبات على المبدأ مبدأ صحيح، كما هو واجب كل قيادة حريصة على كرامة وطنها وشعبها، ووفية للحق والعدل والاستقامة، وبعيدة عن الانتهازية السياسية؛ ولكن على اي ثبات ان يراعي النتائج، فلا تكون الدمار، وان يحسب العواقب حتى لا يؤدي التصلب الى الانتحار.

سفير الأردن السابق لدى الأمم المتحدة