الثقافة والتغيير.. الجوهري والعارض!

من الطبيعي أن تختلط في أوقات الأزمات تعريفات الجوهري والعارض. وفي لحظة نقص الهواء، حين يكون الموت على بعد أنفاس، لن يفكر المرء في الماء لو كان عطشاناً. سيكون الهواء في تلك اللحظات جوهرياً والماء ترفاً. كذلك يتحدث الخطاب السائد عن شطر كبير من تعبيرات الثقافة في الأوقات الصعبة على أنها فائضة، في حين تُفرد الأحقية للخطاب المباشر، الذي يمكن وصفه -لغرض التبسيط فقط- بالخطاب السياسي.اضافة اعلان
لكن الواقع يحكي غير ذلك كل الوقت. في مخيمات اللجوء الفلسطينية،على سبيل المثال، ظهرت مباشرة في عز الأزمة أشكال التعبير الثقافي المختلفة، كدفاع طبيعي عن أحقية الحياة، وكوسيلة لتطهير الانفعالات، بل وترويج فكرة المقاومة التي توصف -بتسرع- بأنها نتاج التحريض السياسي الصرف. في المخيم الفلسطيني، ظهرت الرسومات على الجدران والورق، وازدهر الشعر والقصة والرواية والموسيقى، بوصفها ضرورات نضالية -بل حياتية. كذلك يحدث في مخيمات اللاجئين السوريين الآن، حيث تتحدث التقارير عن الرسم على قماش الخيام، ومحاولة العروض المسرحية بمشاركة أطفال من مخيمات اللجوء والداخل السوري عن طريق "سكايب"، والكثير من الأنشطة الثقافية الأخرى. كما اصطبغ كل شيء في مصر تقريباً في السنوات الأخيرة، من الدراما إلى السينما إلى الرسومات الغرافيكية على الجدران، بصبغة الحراك الثوري المصري ومنعطفاته.
كما تبين من خبرة ما يسمى "الربيع العربي"، كانت الأميّة الثقافية أسوأ مثبطات الإنجاز الثوري -بمعنى التغيير الإيجابي في اتجاه الحرية. ومع كثافة الخطاب التحريضي المباشر واستنفار العاطفة الشعبية المستفزة، فإن العقل السائد لم يكن منفتحاً على جوهر التغيير ووسائله وتعريفاته. وإذا كان البديلان اللذان سارعا إلى ملء الفراغ هما فلول الأنظمة/ العسكر، أو أصحاب الأيديولوجيات المنغلقة، فإن ذلك يؤشر على غياب ما سماه كثيرون -وأنا منهم- البديل الثالث: الجمهور المتسلح بالعقل الجدلي المهيأ بأدوات الثقافة للتعامل الإيجابي مع مختلف الأفكار، والاختيار الواعي من البدائل -بل واستحقاق أن يكون بديلاً حاضراً بقوة وقادراً على المنافسة.
ما حدث في الانتفاضات العربية التي تم إخراجها بسرعة عن مساراتها، كان نتاجاً حتمياً للحرب التي شنتها الأنظمة السكونية السائدة طويلاً على الثقافة وحرياتها التعبيرية. وقد أفضى تحالف الفكر السلطوي المعادي للتعددية مع العقائدية المتصلبة الرافضة للفكر الآخر بنيوياً، إلى تضييق مساحة المثقف التنويري لحساب حيز السياسي والواعظ. وتعزز ذلك بالسياسات التربوية والمناهج الدراسية المكرسة لإعدام العقل النقدي، والسياسات الإعلامية التي قللت من شأن أصحاب الأدوات التثقيفية البديلة: الرسام والكاتب والسينمائي والموسيقي وما إلى ذلك، باعتبارهم أصحاب انشغالات غير جوهرية مقارنة بالاقتصاديين والساسة والخطباء.
باعتبار الثقافة "طريقة حياة"، فإن التغييب المنهجي للمثقف التنويري وتهميش مكونات ثقافة الأفراد، أنتجا "طريقة الحياة" التي تجعل مجتمعاتنا في منطقة التخلف على أقل تقدير. وبصرف النظر عن المظاهر الحضارية المادية في المجتمعات العربية، كشفت السنوات الأخيرة عن اتجاهات كامنة في طريقة حياتنا، والتي عبرت عن نفسها عند أول منعطف: العنف، التطرف، الوحشية، الانفصال وكراهية الآخر، فقدان الهوية وضبابية الانتماء، والعوَز إلى نظرة إنسانية عالمية. ومرة أخرى، تناضل التعبيرات الثقافية والمثقفون الآن للعثور على مكان في زحمة الخطابات التعبوية، وقصف الإعلام المتركز على الحدث السياسي المنزوع من سياقاته.
إذا كانت الثقافة هي "طريقة الحياة"، فإنها تكون بذلك استمرارية وسيرورة ولا يمكن أن تكون عارِضاً. وما دام المثقفون معزولين وغير قادرين على المشاركة في تصنيع عقل تعددي واعٍ منفتح على مشارب التكوين كافة، فإن العقلية الجاهزة التي تروجها السلطات الكارهة للتغيير ستظل تنتج الشخصية المصابة بقصور معرفي، وبالتالي طريقة الحياة المأزومة التي نعيشها الآن. ومع أن مداخلات المشتغلين بالسياسة والتحليل تبقى مهمة دائماً، فإن ذلك لا يجب أن يكون على حساب المداخلات الثقافية الأخرى المطلوبة بقوة أيضاً لإنتاج التغيير الجوهري الذي لا بديل عنه للعقل السائد، فالثقافة السائدة و"طريقة الحياة". وما لم تتجه إرادة السلطة إلى إحداث تحول استراتيجي في العلاقة بين المثقف والسياسي، بحيث تصبح متوازنة ومتكاملة، فإن العارض سيسود على الجوهري. ولن نحلم بتغيير حقيقي في أي وقت قريب.