الجلوة انتهاك للدستور ولمبادئ حقوق الإنسان


كان للقتل في الجاهلية ثمنان: أحدهما الثأر من القاتل أو من واحد من عشيرته، والثاني هو الجلوة أو الرحيل -رحيل عشيرة القاتل كلها عن بقية القبيلة وعن المكان الطاعنة فيه، لأن رأس كل واحد من عشيرة القاتل كان مطلوباً. وكانت الجلوة تتم في الحال، فما إن يصل خبر القتل حتى تلملم أغراضها وترحل، وربما لا تثبت في مكان لأنها تعرف أنها مطاردة إلى أن تنجح عشيرة القتيل بأخذ الثأر.اضافة اعلان
ومع أن الثأر قد يكون أكبر من القتل الأول، إلا أن الثأر المتبادل قد يستمر سنوات أو عقوداً إلى أن يتقدم شيخ قبيلة أو جهة ذات نفوذ بالصلح بين الطرفين. وللأسف وسوء الخلف ما يزال الثأر مستمراً بين عائلتين في قرية الطيبة في المثلث في فلسطين، وقد زادت محصلته على أربعين قتيلاً من الطرفين من دون أن يقدر أحد أو جهة على وضع حد له.
كانت الجلوة في الماضي -على كراهية الناس لها- أسهل بكثير مما هي عليه اليوم، فقد كان معهم الناس بدواً رحلاً، ولا تفرق معهم كثيراً إذا جلوا. وقد ظلت كذلك -نسبياً- في عصر اقتصاد الكفاف؛ حيث كانت العشيرة الجالية تلجأ إلى قرية أخرى فتستوعبها لأنها تجد عملاً لها فيها. وقد تبقى هناك ولا تعود كما حدث مع كثيرين جلوا بين فلسطين والأردن مثلاً.
أما اليوم وفي عصر الأسرة الذرية، والعشيرة المدنية، والاقتصاد النقدي والاستهلاكي، فإن الجلوة كارثة كبيرة على الأبرياء من الأسرة والعشيرة وكذلك على الجهة المستقبِلة. وقد حذرنا الله تعالى من مثل ذلك حين قال: "واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب" (الأنفال:25) فالثأر والجلوة اليوم أشبه بفتنة تصيب أطرافهما بما في ذلك أطفالهم والناس من حولهم.
إن القاتل لا يشاور أسرته أو عشيرته قبل أن يقدم على القتل، وإلا لمنعوه خشية الجلوة، وربما لبلغوا الأمن عنه، إذا أصرّ عليه. كما أن الدولة قائمة ويوجد قانون وقضاء، فلم يعد هناك حاجة للثأر. إنه إرث جاهلي على الرغم من إيمان معظمنا بالإسلام، إلا أننا نكرره لأكثر من ألف وأربعمائة عام، مع أن القرآن الكريم يأمرنا بأن لا تزر وازرة وزر أخرى (الأنعام) الآية التي تكررت خمس مرات في القرآن الكريم، وأن استمرار هذه الظاهرة بعد زوال مبرراتها يجعلها ظاهرة مرضية أيضاً، وإلا فما معنى إجبار أسرة القاتل وعشيرته -ودعم الحكومات لذلك- على الجلوة؟! إن الجلوة انتهاك للدستور الاردني، اذ "لا يجوز أن يحظر على أردني الإقامة في جهة ما ولا أن يلزم بالإقامة في مكان معين إلاّ في الأحوال المبينة في القانون"، والجلوة تنتهك -كذلك- مبادئ حقوق الإنسان (المادة 12): "لا يعرض أحد لتدخل تعسفي في حياته الخاصة أو أسرته أو مسكنه"، والمادة 13: "لكل فرد حرية التنقل واختيار محل إقامته داخل حدود كل دولة". لقد ضربت عشيرة الهنداوي في النعيمة وعشيرة النوايسة في قرية المزار في الكرك المثل باحترامهما الآية وإعمالهما هذه المبادئ عندما قصرتا حقهما على القاتل فقط، ولم تطلبا جلوة ذويه أو تصرا عليها.
ولما كان الأمر كذلك، فيجب الضغط على الحكومة للالتزام  بالقانون والقضاء، وحقوق الإنسان لوقف الجلوة تماماً. ويجب أن تواصل هذه الاستراتيجية وبحيث يتعود عليها ويتوقعها ويسلم بها الجميع. لقد هالني الخبر عن هذا العيب الكبير في بلد ينتشر فيه التعليم ويكثر فيه المتعلمون والمثقفون عندما ورد في جريدة الغد خبر عن 29 حالة جلوة في (إحدى) المحافظات، فاستفزني الخبر وكتبت هذا المقال.