الجمل والتنين


أكتب هذا المقال من بكين، العاصمة الصينية، حيث تنظّم جامعة بكين للمعلمين حفلاً لإشهار الطبعة الصينية من كتابي "العرب ومستقبل الصين"، الذي قامت بإصداره مؤخراً بعد أن تكرّم أستاذان صينيان للغة العربية في جامعة بكين للغات الأجنبية، بترجمته إلى الصينية، وقام نائب رئيس مجلس نواب الشعب (البرلمان) الصيني بكتابة مقدمته.اضافة اعلان
وأول ما لفت انتباهي حين تسلمت الطبعة الصينية من كتابي، أن الطبعة العربية التي تكرّمت وزارة الثقافة الأردنية بنشرها في العام 2013، حملت على غلافها رسماً للتنين، فيما الطبعة الصينية التي أصدرتها مؤسسة النشر التابعة لجامعة بكين للمعلمين، وهي أقدم وأكبر مؤسسة نشر في الصين، حملت على غلافها صورة للجمل، بل لقافلة من الجمال تمشي في "طريق الحرير" التاريخي الذي ربط العرب بالصين منذ مئات السنين.
ولعل في الأمر ما يشي بطريقة تفكير كل طرف: العرب والصينيون، بالآخر. فالأمر عندهما مرتبط أساساً بالتاريخ، لا بالمستقبل؛ أي على عكس فكرة الكتاب الذي يتحدث عن المستقبل، وعن علاقات حضارية بين الطرفين تتجاوز الروايات التاريخية والخطابات العاطفية عن الصداقة بين الشعوب!
أما الغرض من الدعوة للانتباه إلى المستقبل، فليس متعلقاً بالإنجازات النهضوية المذهلة التي حققتها الصين خلال العقود الثلاثة الماضية، والتي يبدو العرب في أمسّ الحاجة لمثلها، وحسب؛ بل يتعلق كذلك بسعي الصين الحثيث إلى المستقبل، وبخطة معلنة على مرحلتين، تنتهي الأولى في العام 2020، وتكتمل الثانية في العام 2050، وغايتها تطوير مكانة الصين العالمية.
يُفترض في العام 2020، أن يكتمل نموذج "اقتصاد السوق الاشتراكي" الصيني، بعد أن تُنجز مهمة إقامة "المجتمع المتناغم" الذي يحقق الرفاهية والعدالة بين المواطنين، في المرحلة الأخيرة من عملية الإصلاحات التنموية الشاملة التي بدأت تجلياتها الأولى في العام 1978. وقد قال الرئيس الصيني السابق "هو جينتاو" في العام 2007، إن الهدف الرئيس للصين في العام 2020 هو أن تكون قد نجحت في مضاعفة معدل دخل الفرد السنوي أربع مرات عنه في العام 2000، والذي كان بلغ 7078 يوان صيني (نحو 600 دينار أردني وقتها). وما علينا ملاحظته هو أن الصين ليست مشغولة، في المقام الأول، بنمو اقتصاد الدولة، وبالتالي إمكانية توسع نفوذها العالمي، بل بإيصال ثمار هذا النمو لمواطنيها، وتحسين ظروفهم المعيشية. وهذا منطقي تماماً؛ إذ ما معنى أن تنهض موارد الدولة، فتُوجّه للتسلح أو بناء مجالات نفوذ في العالم، بينما المواطنون جياع ومُتعبون، وغير متحمسين لمصالح بلادهم؟!
لا تقول الصين إنها تريد أن تصير دولة عظمى، لا في العام 2020 ولا في العام 2050، لكنها تريد أن تخلق مواطناً مدفوعاً للمشاركة في مسيرة نهوض بلاده، عبر إشعاره بفائدتها المباشرة له شخصياً ولعائلته؛ في مستوى المعيشة كما في الكرامة الوطنية.
ولعل هذا المنهج في التنمية لا بد أن يفتح الباب يوماً على بناء دولة عظمى، ولو بطريقة تلقائية؛ فلا يُعقل أن يعيش شعب من مواطنين يشعرون بالعظمة، إلا في دولة عظمى! هذا ما يجب أن يدفعنا -نحن العرب- للاستعداد للزمن الصيني القادم، من خلال السعي إلى "مصاحبة" الصين حضارياً؛ أي إقامة تحالف وثيق معها، نستفيد فيه من منجزاتها، ونضمن به أن تكون البيئة الدولية أكثر ملاءمة لقضايانا مما هو حاصل في "الزمن الأميركي" حالياً، بخاصة أن مؤشرات كثيرة تؤكد أن العالم سيسبقنا إلى الصين، بما في ذلك إسرائيل، بينما نلوك نحن كلاماً فارغاً عن خوف العالم من نهضتنا، من دون أن نخطو لتحقيقها خطوة عملية واحدة!
وإذا تأخر هذا الزمن الصيني، أو لم يأت، فليس أقل من دراسة التجربة الصينية الناجحة في التنمية، بعقول منفتحة.