الجوع والسلاح!

لم يعد مشهد الموت البشري الهائل يثيرُ فينا عاطفة مميّزة، فقد أصبح أكثر اعتياديّة من أن يُلاحظ. ومعَ ذلك، لا يرغبُ أحدٌ حتماً في رؤية المشاهد التي تعرضها منافذ الأخبار عن ضحايا الجوع في العالم، ومعظمهم من الأطفال. وتذهَبُ الأفكار بالمرء لدى رؤية هذه التقسيمة غير المفهومة والظالمة جداً إلى مساءلة جوهر الإنسانية نفسَه، والشكّ بكل المقولات التي امتدح بها البشرُ أنفسهم بوصفهم النّوع الأرفع من الكائنات.
أمامي صورة استخرجتها من محركات البحث لأرفقها بتقرير عن الجوع في القرن الإفريقي: طفل صغير جداً، جالس في إناء بلاستيكي مكسور في عراء ترابي. يداه النحيلتان جداً تتكئان على الإطار المستدير، نابتتان من جذعه الضئيل الذي تظهر خطوط قفصه الصدري من تحت الجلد. وبشكل عجيب، يحمل هذا الجسد رأس الطفل الذي يعادل حجم الجسم، وفيه عينان تنظران إلى فوق من تحت جبهة مخططة بالغضون ورأس حليقة. ولا تقول النظرة في العينين شيئاً، وإنما تطرح أسئلة معذِّبة مليئة بالحكمة، بالدهشة، بمحاولة الفهم، أو بعتب بليغ لا أستطيع أن أصفه. ولا أعرف إذا كان هذا الطفل ما يزال حيّاً، أو أنّه سيتمكن من العيش حتّى يفهم.
تقول التقارير المفجعة عن الجوع في القرن الإفريقي، إنّ الأمهات هُناك يمارسن "القتل الرحيم"، حينَ يدفع الألم بالأمّ التي تشاهد عذابات صغيرها المتضوّر جوعاً إلى إنهاء عذابه بيديها. والطريقة هي أنْ تتركّه في الصحراء وتمضي، ربّما لتحتفظ باحتمال أن ينجو بمعجزة ما؛ وبإحساس أنّ جزءاً منها ربما يكونُ حيّاً في مكان ما، وربّما تلتقي به بطريقة ما.
أفكّرُ في ضمير العالم، المزدوج والمنحرف. في مشهدين: التباكي على المدنيَين الليبيين و"التبرّع" بأثمان الأسلحة الهائلة لشراء الحياة لهُم؛ وإدارة الظهر عن الجهة الأخرى التي يمُوتُ فيها الأطفال جوعاً بسبب تآمر الطبيعة مع جشع البشرية وغريزة الاستئثار. وكانت شكوى منظمات الإغاثة المستمرة هي عدم وفاء الدول الغنية المانحة بالتزاماتها المالية لشراء القمح والدواء لهؤلاء الأخيرين. وأتصّور أثمان الأسلحة التي تُصرف على قتل أناس بدعوى إنقاذ الناس، بل وبأثمان تلك التي تزدحم بها ترسانات الحكومات والدول في كل مكان من العالم، أيضاً لشراء بقاء الناس باحتمال قتل الناس، أو ببساطة لقتل الناس حتى تبقى الأنظمة. ماذا لو لم يكُن هناك سلاح، واستُخدم المالُ المُنفق في تطويره وتصنيعه وشرائه وبيعه في شيء مُختلف؟ كمْ طفلاً كان يُمكن أن ينجو من احتضار الموت احتراقاً في جحيم الصحراء بثمن صاروخ "كروز" تلقيه قاذفة على عجل ليُنبتَ الخراب؟
أسئلة مثالية، لا تغيّر شيئاً من قتامة الخبرة البشريّة التي لا تُفسح مكاناً للحالمين. والمُعادلة الواقعية هي أنّ السلاحَ ضروري لبقاء النوع البشري، بمعنى بقاء الشعوب التي تمتلك الأدوات واللغة لتعريف نفسها بأنّها النوع البشري الصافي المتطهر من بدائية ووحشيّة قاطني الجنوب والأدغال. أمّا إنقاذ الناس من أيّ شيء، فليس بلا ثمن في زمن عَملي، ولذلك ينقذون النّاس من الأنظمة في العراق وأفغانستان وليبيا شريطة استرداد ثّمن السلاح، نفطاً وهيمنة واستعباداً. وما الفائدّة من إنقاذ الصوماليين الفائضين عن حاجة العالم؟ ولماذا يُرسل الجنود والعربات لفتح الطريق أمام النوايا الطيبة ورغبة المساعدة، في جُهد لا يُجدي ولا يَنعكس أرقاماً في الدفاتر التجارية؟
لسبب ما أصبَحَت كارثة القرن الإفريقي تجد لها مكاناً بين عناوين الأخبار عن القتل الآدميّ اليومي. وربّما تسترق لنفسها حضوراً وجيزاً في الواجهة حتّى تدفعُها الأخبار الأخرى إلى خلفيّة المشهد ثانية. والحلولُ التي يطرَحُها المحللون كلها تقريباً تبدأ بكلمات: "يجب"، "ينبغي"، و"من المفترض". وأنا أيضاً، لا أشعُرُ بأنني أفعلُ شيئاً أو أستطيع أن أفعلَ غير التمنّي؛ والكتابة عن شيء ربّما يستدعي عاطفة إنسانية في زمن يهيمن فيه السلاح، وتغادر فيه العواطف مُخلية مكانها للنظرة المتسائلة التي تحاول الفهم في عينيّ الطفل الإفريقي!

اضافة اعلان

[email protected]