الحدود مع الآخرين.. هل هي ضرورية لحماية الخصوصية؟

إن الشخص الذي يضع الحدود مع غيره يعني انه مسؤول عن خياراته - (ارشيفية)
إن الشخص الذي يضع الحدود مع غيره يعني انه مسؤول عن خياراته - (ارشيفية)

إسراء الردايدة

عمان- “الحدود في العلاقات تساعد على معرفة ما نحن عليه وما لسنا عليه، متى نبدأ ومتى ننتهي ليبدأ الآخر، ما نحن مسؤولون عنه وما يقع في دائرة مسؤوليّة غيرنا، عندها فقط، نحصل على الحريّة”. هكذا يعرف الاختصاصي النفسي والمؤلف وخبير العلاقات العالمي هنري كلاود الحدود وأهميتها في العلاقات.
ويقول ايضا، إن وضع الحدود يعني ان تكون مسؤولا عن خياراتك، فأنت من يضعها ومن سيعيش وفقا لما يترتب عليها من نتائج. ومن هنا فإن الحدود تعني أن نملك افكارنا ونوضح ما نخزنه فيها.
أما مؤلفة كتاب “Emotional Alche أو الكيمياء العاطفية، تارا بينيت غلومان، وهي أستاذة في علم النفس ومعالجة نفسية، فتعرف الحدود الشخصية بأنها الحدود التي نضعها في العلاقات، وتمكننا من حماية أنفسنا من التلاعب من قبل الطرف الآخر كحاجز منيع يقي من الغرق في حاجات الآخر العاطفية، وتنبع هذه الحدود من الإحساس الجيد بقيمة ذاتنا وأهميتها، وهو أمر صحي.
وبين تسوية ملامح هذه الحدود وتحديدها كونها تشمل طباعا وممارسات خاصة تحكم علاقة شخصين وحتى جماعة لحملها عواطف ومشاعر تهم الأطراف المشاركة؛ يقع الكثيرون في فخ إقامة علاقات مع المحيط، ما يدفع البعض لاختراق مساحة غيره، لتتداخل عوامل مختلفة معقدة في تكوين الروابط بينهم.
ويرى خبراء علم النفس والاجتماع أن غالبية المشاكل الاجتماعية ناجمة عن غياب الحدود بين الناس، وعدم الالتزام بالضوابط جراء غياب تقديرها، فضلا عن كون وضعها وبرمجتها يرتبطان بالتنشئة الاجتماعية، ووجودها يعبر عن مسافات نفسية تمنح واضعها الراحة والاستقلالية.
الى ذلك، فإن وضع الحدود ليس بالمهمة السهلة، فهي تتطلب حزما كبيرة وجرأة لحفظ الخصوصية من جهة، وترك مساحة من جهة اخرى، وفقا للثلاثينية سحر محمد، خصوصا بين الأقارب.
سحر اضطرت لوضع حد فاصل بينها وبين حماتها، بعد أن انتقلت وأسرتها للسكن في عمارة جديدة، وأصبحت جارة لحماتها “الباب بالباب”. لتجد نفسها أمام مأزق يتمثل بفرض السيطرة وتحديد المساحة لحفظ خصوصيتها ومنع حماتها من التدخل في تربية ابنائها، أو أن يتحول كل شيء إلى مشاركة إجبارية بينهما.
ولم يكن ذلك أمرا سهلا، وفقا لسحر، خصوصا وأنه سبب بعض الحساسية بينهما في البداية، لكن بعد مضي اشهر قليلة، تفهمت الحماة موقف الكنة وباتت الحدود واضحة بينهما.
وبحسب سحر، فإن الحد الفاصل هنا غايته واحدة، هي تجنب مشاكل أكبر، خصوصا أن العلاقة بين الاقارب قد تمنحهم الحق في التدخل في شؤون الطرف الآخر الداخلية.
وفي هذا الصدد، يلفت الاختصاصي النفسي د. محمد الحباشنة إلى أن الحدود تمثل المساحة الاجتماعية، سيما في العلاقات، ويتحدد ذلك بالأهمية التي تمثلها هذه الروابط، لكن المشكلة تكمن في صعوبة تعريف العلاقة، ما يجعل من عملية اقامة حد واضح امرا صعبا، أما الأكثر صعوبة فهو افتقار البعض إلى تعريف العلاقة بشكل صحيح، ما يؤدي إلى إقامة حدود غير صحية.
والأصل في العلاقات ان تبنى على أسس وضوابط، خصوصا الشخصية منها، من اجل حماية نوعية وخصوصة كل طرف، بحسب الاختصاصي الاجتماعي د. حسين خزاعي، والذي ينوه إلى أن من يضع الحدود ويفرضها هو صاحب العلاقة مباشرة، لأن غيابها يعني مزيدا من المشاكل الاجتماعية.
إلا أنه وفي بعض العلاقات تتوارى الحدود في العلاقات العميقة، خصوصا تلك التي تجمع بين أصدقاء مقربين جدا، وهذا لا يعني عدم وضعها، بحسب الأربعينية وداد السالم، التي ترى أنه مهما كانت العلاقة بين الصديقات متينة، فينبغي أن لا ينسى كل طرف حدوده التي يقف عندها.
وجاء رأي السالم من واقع تجربة عاشتها مع صديقة مقربة تخللتها مشاكل وضائقة مالية عصفت بها اثر سوء ادارة من قبلها، لتجد نفسها محور حديث الجميع، لأن هذه الصديقة كانت تخبر كل من حولها عن وضعها “بسوء تصرفها وسذاجتها”.
خزاعي من جهته، يؤكد ان معظم المشاكل الاجتماعية في المجتمع تنشأ من غياب “الحدودية” بين الناس، وعدم الالتزام بها، وتجاهل الضوابط االفاصلة.
ولأن الحدود مهمة جدا في المحيط العائلي والأسري، وجد الستيني عبد القادر السيلاوي نفسه منذ بداية حياته الزوجية في مواجهة تحديد مساحة بيته وعائلته مقابل أفراد اسرته الآخرين.
وهنا عمد السيلاوي الى ان يكون حازما مع زوجته في زياراتهم الأولى لمنزل العائلة، ناصحا إياها بالتصرف كضيف، والأمر نفسه ينطبق خلال زيارة العائلة لهما، وهذا كله كي يتجاوز اي تدخل مستقبلي واختلاط في فهم المواقف من مبدأ “أريح لراسي”.
 ولأن الاصل في الحدود ان تنشأ منذ الصغر وفقا للحباشنة وفي محيط العائلة، إلا انها تصبح أصعب في ظل تواجد العائلات المتداخلة الكبيرة الي تعيش معا وبالقرب من بعضها البعض.
ويرى الحباشنة انه وفي وقت معين يتعين على الفرد ان يضع حدودا بغية ايجاد التوازن في علاقاته المحيطة، وهي طريقة للتواصل بشكل افضل وحماية النفس والحفاظ على الاستقلالية وتجنب الايذاء من المقربين.
 وفي موقف اخر في محيط العمل، كان تصرف الثلاثينية أسماء العواملة اشبه بصدمة لزملائها، حيث عمدت لمخاطبتهم بطريقة رسمية بالرغم من عملها معهم لاكثر من 7 سنوات، وذلك بعد نقاش طويل وجدت فيه ان بعضهم يحلل ويحاكمها كأنه ولي امرها، خصوصا فيما يتعلق بمظهرها وما تأكله ومن تصادقه، بل وصل الحد إلى التدخل في أمورها العائلية.
 هذه المواقف كانت بحسب العواملة “القشة التي قصمت ظهر البعير”، مبينة انه ومهما امتدت سنين العلاقة مع الزملاء، فإنه لا يحق لأحد منهم ان يتدخل فيما لايعنيه.
 وفي موقف مختلف تعرضت له، يتصل بمواقع التواصل الاجتماعي، حيث اضطرت لحظر شخصيات مختلفة لأنها تتدخل في كل كبيرة وصغيرة تنشرها وتحللها، مانحة الحق لنفسها بذلك، كونها تندرج تحت مسمى “صديق”، وبلغ الأمر أشده في الحكم عليها من خلال الصور التي تنشرها.
 وهذا التدخل غير المبرر بحسب خزاعي مرتبط بالمجتمع الذي لا يقدر الضوابط ولا يأخذ بعين الاعتبار مساحة الفرد الخاصة، وهو في العادة يكون تقليدا أعمى لمفهوم الحرية ويتطلب معالجة جذرية.
فيما يرى الحباشنة في من يمنح نفسه الحق في التدخل بأنه يعاني من انعدام الاحساس بالهوية، حيث يلجا فاقد هذه الاحساس الى رسم هويته وقيمة ذاته بمحيطه.
ويذهب الحباشنة إلى ان القاعدة الأساسية تفيد ان الذين يعانون من اضطرابات في شخصيتهم  يكونون غير قادرين على التعلم من خبراتهم، وبالتالي لا يجيدون تحديد ملامح اي علاقة في محيطهم. وينوه بأن الناس ينقسمون لقسمين: “منفتحين”، و”غير منفتحين”، والقسم الأول غير قادر على إنشاء علاقات سليمة، لأنه لا يقيم العلاقة بشكل واضح بحكم منح ثقته السريعة للكل بنفس المقدار، اما القسم الثاني فهو الاكثر قدرة على وضع الحدود مع الاخرين لأنه يستغرق وقتا في تحديد مفهوم العلاقة وصياغة شكلها.
عموما، تسمح الحدود الصحية لنا بالشعور بالثقة بالعلاقة والانتماء وتطورها، وتوفر أطرا صادقة لكلا الطرفين، ولكن إن لم يتم معرفة مساحة تلك العلاقة وأين تنتهي، فإن الشخص لن يشعر بالراحة في أي علاقة يقيمها في حياته.

اضافة اعلان

 [email protected]