الحفريات في الهوية

بات سؤال الهوية ضرورة قصوى، وهو بحاجة إلى مزيد من التنقيب والبحث والدراسات. تتصدر نقاشات وسائل التواصل الاجتماعي- بدءا بالفيسبوك وانتهاء «بكلوبهاوس»- في ظروف معينة أحاديث تندرج تحت موضوع الهوية مفهوما وممارسة. فتعكس أحيانا هذه النقاشات أزمة هويات قد تصل إلى حد صراع هوياتي. إن في تفاصيل الحراكات المدنية والشعبية عالميا وفي الإقليم وفي المجتمع المحلي مؤشرا آخر لضرورة نقاش الهوية والحوار حوله. فهذه الحراكات التي تجد في الشارع ومسيراته وفي نقاشات «الكلوبهاوس» (ميتا مساحات) كما يسميها البعض أو المساحة الثالثة كما يطلق عليها بعض المفكرين تتيح لهم حرية الحراك والفكر والتعبير والأداء. لماذا يجد هؤلاء الشباب حرية التعبير وإثبات الذات في «المساحة الثالثة» ولا يجدونها على أرض الواقع؟ في ضوء التحولات الهائلة والمتسارعة لا بد من تبني مفهوم ومنهجيات لدراسات الهوية تقوم على فلسفة الحفريات في دراسة الهوية باعتبار الهوية حفرية سردية محفورة في «مستحاثات» ثقافة الشعب وتاريخ فكره ومكونة من طبقات عدة مركبة ومتداخلة في نشأتها وتشكلها. فهدفنا هو أن نتمكن من استنطاق سرديات الهوية وحدودها ومعرفة أساسيات التطور العضوي لها والبنيوي عبر التاريخ. لم يعد كافيا أن ينقب عن الهويات بدراسة أحادية الهوية أو «تفردية الهوية» Individuation أو بثنائية الذاتي والجمعي فيها أو حتى أن تفسر الهويات من خلال تأويلات بوح الهوية عن الآخر والغيري، أو من خلال مواطن اختلاف الهوية عن الآخر، أو حتى من خلال تقاطع الهويات أو تفاوضها أو نزوحها ومقاومتها للآخر. ولم يعد وافيا أن ندرس الهوية بما تفتقده من أصالة نشأتها أو من خلال فراغ رمزيتها ودلالاتها الثقافية والمكانية. بل نحتاج إلى كل هذا وأكثر للتنقيب بعمق عن قاع الهويات. مثال: سببت الظروف الناتجة عن تداعيات الجائحة المتسارعة وعن «متلازمة» الهياكل والأنظمة الراهنة السوسيو اقتصادية والنيوليبرالية الرأسمالية أشكالا جديدة من صراع الهويات. وينبثق تشكلها من معاناة الدول الفقيرة والفئات الأكثر عرضة للانتهاك داخل الدول في نضالها اليومي لتحصيل الموارد المعيشية وتحقيق كرامة العيش أو حتى الوصول إليها. فأصبح تعبير هذه الهويات عن نفسها في معظم الأوقات نابعا من أماكن الغضب أو الثأر أو الألم. مثال آخر: أدى تصاعد الهويات الرقمية أو تيار تدويل المواطنة وعولمتها إلى ردة فعل معاكسة عند البعض وإلى نزوح باتجاه الهويات الوطنية، وإلى نزعة ترى في تشريع الهوية الوطنية من خلال ثوابت المكان والزمان وثوابت حدود الهوية الثقافية واجبا وطنيا ودينيا أحيانا. فتعتقد هذه الفئة بفقدان شرعية الهوية الوطنية إن افتقدت لهذه الثوابت، وتشكك في أصالة هذه الهويات وولائها. وهنا يبرز سؤال إن كانت نزاعات الهوية في تصاعد كرد فعل أو ربما كتمازج مع التحولات المتتالية لخوارزميات العوالم الافتراضية اللامتناهية أو كـ «ارتكاس» ومقاومة لكل الاهتزازات المتتالية والمتسارعة للثورات الرقمية والتكنولوجية وهيمنة العولمة التي باتت تهديدا مباشرا لتذويب الحدود الطبيعية «لمخيال» المكان والزمان المتعارف عليهما ولخرائط الهوية وحدودها. لذلك تبرز أولويات تحتاجها دراسات الهوية في ضوء التحولات المعقدة الراهنة، منها: 1 - يجب أن ترتكز دراسات الهوية على دراسات بينية تتقاطع فيها مجموعة أطر فلسفية ونظرية للوصول إلى قراءة «بانورامية» شاملة للهوية. 2 - استحضار الهياكل البنيوية التي تراكمت وتمازجت مع بعضها البعض عبر التاريخ للوصول إلى قاع تفاعلات الهوية مع ذاتها ومع العالم الآخر وفي إنتاجها لذاتها. 3 - استكشاف هندسات الهوية وفضاءاتها الأدائية من داخل التراث والثقافة ومن داخل المعيشي اليومي والمتأمل والواقعي والمخيالي، إلخ. 4 - فهم «نوستالجية» الهويات (الحنين إلى الماضي) وكيفية استحضار ذاك الحنين للتاريخ وللماضي وتشابكهما لإعادة إنتاج الذاكرة من جديد؛ الرسمي منها والشفوي، ولسرديات أرشيفها الهوياتي ومخزونه. 5 - فهم كيفية تأثير ما يسمى (pathology of structures) أي أمراض البنى المؤسسية التي تنتج من استراتيجيات السيادة والسلطة وعلاقات القوى العالمية. وكيف تؤثر هذه البنى على أدوار الهوية واستراتيجياتها وتشكلها في التفاوض أو المقاومة أو التناقض مع هذه البنى. 6 - تحليل الظروف التي أدت إلى «التمترس» مؤخرا حول سياسات الهوية وبتزايد متسارع مع تراجع واضح لسياسات التلاقي والسياسات الجامعة politics of affinities التي تنادي بها سياسات عالمية وفلسفات حقوقية تؤمن بعالمية المواطنة وتدويل «الحقوق وأخلاقيات الهوية» 7 - دراسة التوجه الأفقي والعمودي في كل مكان من أجل الرجوع إلى particularized identities (خصوصية الهوية وأصولها) والتي تنادي بدورها بسياسات عبور هويات الهامش والأقليات إلى المركز من خلال تبني أنموذج سياسات الاعتراف paradigm of the politics of recognition الذي قد يمنح هذه الهويات في المجتمعات عدالة الوصول إلى الموارد والخدمات والمساواة بالوصول إلى الفرص. 8 - الإلمام بهويات الشعوب التي عاشت ظروف استعمار وما تزال تعيشها، ومعرفة كيف تحاول جاهدة للانتقال من «تروما» الامبريالية والاستعمار إلى التعافي بإنتاج هندسات جديدة لعلاقة هذه الشعوب مع بعضها البعض لفرز سياسات تضامن هذه الهويات في صراعها مع القوى الاستعمارية والمهيمنة، وفي أشكال مقاومتها المدنية وصمودها الوجودي. 9 - هناك حاجة لفهم تناقضات بعض الهويات التي تترنح ما بين الهامش والمركز، فتارة تتموقع في الهامش وتارة أخرى تعبر إلى المركز لتؤدي كل طقوسه. وهناك تناقض آخر ما بين الهويات التي تنادي بالحاكمية في آن-كما هو واضح في المنظومة الحقوقية العالمية- وتقع في آن آخر فريسة احتكارها للخدمات والموارد التي تتحكم في صنع الفرص وأشكالها للدول الأكثر هشاشة والتسبب أحيانا بالقطيعة بين أفراد هذه المجتمعات حول هذه الحقوق. وهناك تناقض آخر ينعكس في هويات تنادي ظاهريا بالعيش المشترك بينما تؤدي أدوارا متناقضة من سلوكيات فئوية وجهوية. تأملات في الحلول: 1 -الإلمام بالتحولات التي طرأت على عالمنا مؤخرا، وخاصة ما يتصل منها بالعقل وتفاعلاته والهوية واستراتيجيتها في استحضار تاريخهما وفي تأطير طقوس المواطنة وأعرافها وانتمائها للصالح العام. فقد أصبح الفضاء الافتراضي والخوارزميات امتدادا للعقل الإنساني الذي كسر كل قيود احتكار المعلومة أو الحقيقة واحتكار الحريات. وبناء عليه فعلى «الماكنات» السياسية أن تعيد إنتاج نفسها وإعادة هيكلة بناها لتتناسب مع كل هذه المتغيرات من التشكلات الجديدة لحدود الأدوار والهويات والسياسات المرتبطة بالمواطنة والعقد الاجتماعي المتسق مع الواقع الجديد. وعلى القيادات تبني فلسفة من الحاكمية التي تبتعد عن «التمترس» في ترسانة ذاتيتها وتعظيم أدواتها وسلطاتها وسيادتها. 2 - انسجام رقمنة الهويات وتكنولوجيات إنتاج الذات مع تاريخ تطور الإنسان ككائن اجتماعي بحيث تنتج عقدا اجتماعيا جديدا من الشراكات والتحالفات والتقاطعات التي تنظر للمواطن على أنه شريك استراتيجي للحكومات وجزء لا يتجزأ من مكونات الحاكمية. فيأتي هذا العقد الاجتماعي من أجل أن يحمي الهوية الأخلاقية والقيمية للدولة والحكومات، ويحمي الهويات الوطنية من الاختطاف و «الأدلجة». 3 - المواءمة بين المنظومة التشريعية والثقافية والاقتصادية والسياسية مع حق المساواة في الفرص equality of opportunities. فإيجاد فروقات ما بين الناس مبنية على تعزيز الحظوة والامتيازات للنخبة والتهميش والإقصاء والمحو للأقليات أو الفئات الأكثر عرضة للانتهاك هو جرم أخلاقي أساسا. ولا يجب أن يكون هناك سرديات أنطولوجيات في الهوية تتمتع بالحظوة والسيادة والامتيازات بينما تعيش هويات إما في التهميش أو المحو erasure. 4 - تذكر تأثير الثقافات السائدة والصاعدة في الهويات التي تتفاعل وبشكل يومي مع ثقافة العشيرة والثقافة الهرمية وثقافة الدولة وثقافة سوق العمل من ممارسات النيوليبرالية الرأسمالية، وثقافة التحول المتسارع من الثورات الصناعية، ومن ثقافة المستقبل الذي بات يعتريه الكثير من الغموض. الحاجة ماسة لإعادة نظر العالم في كل سردياته حتى يتمكن من إنتاج حدود هويات حاضنة وجامعة، فالهوية باتت قادرة على أن تكون عابرة لكل أشكال الحدود. ولم يعد هناك مكان لسرديات التهميش والإقصاء والمحو في زماننا. فهي سرديات عفى عليها الزمن والفكر والأخلاق.اضافة اعلان