الحقيقة المحظورة

الحديث عن دور إسرائيل في توجيه السياسة الخارجية الأميركية نحو ما يتسبب في إلحاق الضرر بمصالح أميركا بخاصّة ما يخصّ علاقاتها مع العالمين العربي والإسلامي، ليس بالجديد. فهنالك أكثر من محاولة قام بها مفكرون وأكاديميون في الولايات المتحدة لتسليط الضوء على مسؤولية اللوبي الإسرائيلي في توريط أميركا في سياسات ومواقف مضرّة وترتبت عليها عواقب وخيمة. ولكن كل محاولة كانت تتعرّض للمقاومة المضادّة وثم الإسكات.

اضافة اعلان

أما في هذه الأيام وحيث تسعى واشنطن للبحث عن مخرج لورطتها في العراق، فإن المطالبة تتزايد لتحديد مسؤولية من زج بأميركا في هذه الحرب.

ولكن أحدث التقارير، التي أثارت ضجّة كبيرة في الأوساط المؤيدة لإسرائيل، هو ذلك الذي ظهرت خلاصته في"لندن ري?يو أو? بوكس" في 23 آذار الجاري، من إعداد جون ميرشايمر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة شيكاغو ومؤلف كتاب"مأساة سياسة الدول العظمى" وستيفن وولت، أستاذ العلاقات الدولية بجامعـة هارفـارد Kennedy School of Government.

ويبدأ التقرير بالقول بأن أساس سياسة أميركا في الشرق الأوسط منذ عام 1967 هو علاقتها بإسرائيل. وأن المزج بين الدعم الثابت لإسرائيل ومحاولات نشر الديمقراطية في المنطقة قد ألهب المشاعر العربية والإسلامية، كما أدّى إلى تهديد لم يقتصر فقط على مصالح أميركا الأمنية بل شمل أمن بقية أرجاء العالم. وليس لهذا الوضع، بحسب التقرير، أي مثيل في تاريخ أميركا السياسي.

ويتساءل التقرير: "لماذا رغبت الولايات المتحدة أن تضع أمنها جانباً من أجل الدفع بمصالح دولة أخرى"؟ ويضيف، أنه قد يتبادر للذهن أن العلاقة الوثيقة بين البلدين قد استندت على مصالح استراتيجية مشتركة أو على مبادئ أخلاقية، ولكن لا هذا ولا ذاك يبرر ذلك المقدار البالغ من الدعم المادي والدبلوماسي الذي تقدمه أميركا لإسرائيل، كما يشير التقرير.

والحقيقة هي أن قوّة الدفع الرئيسية وراء السياسة الأميركية هي السياسات الداخلية وبصورة خاصّة نشاطات اللوبي الإسرائيلي، الذي تمكّن، بحسب التقرير، من التحكم بالسياسة الخارجية الأميركية وتوجيهها في غير ما تمليه المصلحة الوطنية مع القدرة في نفس الوقت على إقناع الأميركيين على أن مصالح أميركا ومصالح إسرائيل متوازية.

ويستعرض التقرير المساعدات المالية الباهظة التي تقدمها أميركا لإسرائيل والتي بلغت حتى عام 2004، (140) مليار دولار ما يعادل خمس كامل موازنة المساعدات الخارجية، كما يستعرض المساعدات العسكرية التي شملت أسلحة متطوّرة، والمساعدات في مجال الاستخبارات التي فاقت ما سمحت به أميركا لحلفائها في الناتو، كما أنها غضّت النظر عن سلاح إسرائيل النووي.

أما في يتعلق بالدعم الدبلوماسي فيقول التقرير إن أميركا ومنذ عام 1982، أحبطت بالفيتو 32 قراراً في مجلس الأمن لحماية إسرائيل من النقد، وذلك يزيد على عدد المرات التي استخدمت فيها جميع الدول الأخرى حق الفيتو.

ويستعرض التقرير كذلك أن الدعم الأميركي لإسرائيل قد عَقَّد علاقات أميركا مع العرب وأن ذلك الدعم قد جعل من إسرائيل عبئاً على السياسة الأميركية لا عوناً لها خاصّة في حربين قادتهما أميركا على العراق وفي حرب أميركا على الإرهاب.

ويحمل التقرير اللوبي الإسرائيلي مسؤولية الأضرار الكبيرة التي لحقت بالمصالح الأميركية جراء الدعم الأعمى والمطلق لإسرائيل على حساب أي شيء آخر بما في ذلك المصالح الأميركية الوطنية والأمنية ذاتها.

وما الجديد في ذلك؟

أكثر من مرّة تعرّضت لهذا الموضوع، كما تعرّض له كثيرون غيري، وناقشت أنه لا توجد أية قضايا خلافية بين أميركا والعالمين العربي والإسلامي باستثناء دعم أميركا للجانب الخطأ في سلوك إسرائيل. وبينت أن الخيار أمام أميركا هو ليس أن تدعم إسرائيل وتخسر العرب أو تتخلّى عن إسرائيل من أجل الحفاظ على مصالحها العربية والإسلامية. فبإمكان أميركا أن تقدّم كل الدعم الذي تريد لإسرائيل لحمايتها وضمان بقائها؛ ولكن المطلوب ألا تدعم أميركا احتلال إسرائيل لأراضي جيرانها وألا تحمي إسرائيل عندما تنتهك القانون الدولي، وعندما تبني المستوطنات على أرض محتلة وعندما تنتهك المواثيق الدولية وحقوق الإنسان وعندما ترتكب جرائم حرب وعندما ترفض كل مشاريع السلام بما في ذلك ما تساهم واشنطن في وضعه وإقراره.

المطلوب من أميركا أن تكون عادلة ومحقّة ومؤيّدة للقانون والشرعية في تعاملها مع دول المنطقة لا أن تكون منحازة للعدوان والباطل ومموّلة ومسلّحة له وصامته على كل ما يلحقه ذلك العدوان من أذى وإذلال وإساءة وضرر بحقوق الآخرين المشروعة.

يتعرّض مؤلفا هذا التقرير لحملة شاسعة تعرّض بكفاءتهما الأكاديمية وتتهمهما طبعاً باللاسامية. ذلك أمر طبيعي لأن أحداً لا يقبل أن يتحمل مسؤولية هذه الأضرار والأخطار الجسيمة التي تحيق بالمصالح الأميركية والتي تفاقمت في ورطة أميركا بالعراق، والتي بدأت تهدد أمن وسلامة ونظام العالم بأسره.

ولكن إلى متى يمكن كبت وطمس الحقيقة؟ حتى الصحف الإسرائيلية تعتبر التقرير تنبيهاً يجدر على المعنيين عدم إغفاله.

الحقيقة أن إسرائيل تجرّ أميركا بالفعل نحو مخاطر كبيرة وأميركا الدولة العظمى تجرّ العالم معها. والمؤسف أن الطريق البديل الذي ما زال مسدوداً هو الذي، يضمن بقاء إسرائيل وأمنها، ويؤمِّن مصالح أميركا، ويحرّر العالم من الإرهاب، ويعيد للقانون الدولي هيبته ودوره، ويوفر الجهد والمال المبذول على الحرب لينفق على التنمية والتقدم والازدهار للعالم وشعوبه. إلى متى يمضي العالم على طريق الشر ويتجنب طريق العدل والحق والسلام؟

سفير الأردن السابق في الأمم المتحدة