الخروج من الأزمات الاقتصادية

ميراث الأزمات، يبشر بأن الأزمات ليست كلها شر. بل هي بوابات التاريخ. فالأزمات هي مخاض التاريخ، ومواسم الخصب والميلاد فيه. فمع كل أزمة هناك مخرج أو أكثر لا ينتهيان بحلول ترقيعية هنا وهناك، كما يصر كل الذين سببوا الأزمة، وكل الذين كانوا من المستفيدين من الوضع الذي آل إلى أزمة.

اضافة اعلان

هناك من يريد نظاماً أبدياً يديم مصالحهم، بغض النظر عمن يدفع الثمن. وهناك متضررون من الواقع طفح بهم الكيل. فكل أزمة هي تعبير عن اختناق النظام الاقتصادي الذي أدى إليها. وفي كل نظام اقتصادي هناك من يدفع الثمن، وهناك من يقبض. والأزمات هي اختلال التوازن بين الذين يدفعون والذين يقبضون.

والأزمات ليست فقط مواسم ميلاد لوقائع تاريخية جديدة، بل هي أيضاً مواسم ميلاد ونضج أفكار جديدة. فحين تكون الأمور مواتية، ليس هناك من يريد أن يصغي لفكرة جديدة. ويتهم جهد التفكير بأنه مضيعة للوقت الذي قد يكون مربحاً. ولكن مع الأزمات، وتلاشي فرص الربح، تنتشر عملية صيد الأفكار.

ولكن كثيراً، ما يحول وضيق أفق الفئات التي أدت سياساتها ومصالحها إلى أزمة إلى تضييع كل فرص الفهم للأفكار الجديدة. فهم في الغالب يبحثون عن أفكار تعزز مصالحهم، ويضعون مصلحة البعض معياراً موضوعياً لصحة الأفكار. وهذا ربما كان أحد الأسباب التي ضيعت فرص تحول الاقتصاد إلى علم حقيقي.

فكل أزمة هي موسم ميلاد صيغة ونظام اقتصادي جديد، وهي أيضاً فرصة ميلاد فكر اقتصادي جديد. والذي يريد أن يواجه أزمة القرن الواحد والعشرين بميراث القرون الماضية من الفكر أو النماذج الاقتصادية، هو كمن يريد أن يصعد إلى القمر بعربة تجرها الحمير. ودون أن يعي، أن العربات التي تجرها الحمير كان لها وظيفة مربحة فيما مضى. وحتى لو تمكن البعض من المجادلة بأنه ما زال للحمير بعض الفوائد، ولكن بالتأكيد لا يمكن لأحد الإدعاء بأنها ضرورية لرحلة الصعود للقمر.

الحديث عن ضرورة مواجهة الأزمة بشكل شفاف وعلني ليس تغطية لتبرير الدعوة لتنظيم موسم لشق الثوب واللطم على ما فات، فالتاريخ حقيقة موضوعية لا معنى للاحتجاج ضده. ولكن المستقبل مرهون بإرادتنا، وهذه يجب أن يقودها عقل متفتح. وبمجرد التفكير بالانقياد لأفكار الماضي، وعدم الاستعداد للتعامل مع أفكار جديدة، يمثل إجهاضا للإرادة وحرمانا لها من التفتح والانطلاق. فالإرادة التي تسعى لغد جديد، وتريد الارتحال نحو أفق جديد، تحتاج إلى مراكب جديدة، لا تجرها الحمير.

ومن يتتبع تاريخ الفكر الاقتصادي يجد أن كل أزمة ترافق معها نموذج اقتصادي، واحد على الأرض، حقق بعض أحلام البشر، وواحد على الورق، فحص علمية الطريقة الجديدة لتحقيق الأحلام، وأحياناً كان دوره يتلخص بمنح بعض العلمية لصياغات هذه الأحلام وتحويلها من حلم مدينة أو دولة لحلم عالمي كبير. فالفكر الاقتصادي بإصراره على التشبه بالعلم، يسعى لمنح بعض التعميم لأفكار وأحلام ونظم اقتصادية صاغتها مدن أو دول محددة.

ومعضلة الأردن الذي يقف على مشارف الأزمة، أنه يجر للتعاطي مع الأزمة بذات الأدوات الاقتصادية والفكرية التي كانت قبلها. فبعد أشهر من الإنكار، يأتي إعلان وزير المالية عن وجود خطة طوارئ، تأكيداً لنمط التفكير الاقتصادي الممسك بزمام الموارد.

الانتقال من إنكار وجود الأزمة إلى خطة طوارئ يؤكد أن لا تغيير جرى على طبيعة ونمط التفكير الاقتصادي المهيمن، فما تزال العربات تمشي بذات الإيقاع. ومع أنني أتمنى للحكومة النجاح في خطة الطوارئ، ولكني أشك بفرص هذا النجاح.

الحكومة تتعامل مع الأزمة بذات العقلية التي تعاملت فيها مع الوضع الاقتصادي الذي أفضى إلى الأزمة. وربما بعد حين سيخرج الناطق الرسمي ليعلن مسؤولية عنكبوتات تسكن الغيوم عن إفشال خطة الطوارئ العبقرية للحكومة. ولن يجرؤ أحد على مناقشة الأسس الفكرية والنظرية للنموذج الاقتصادي الذي اعتمدت عليه الحكومة لصياغة خطتها الاقتصادية.

ومن سيسأل؟ فأكثر من عشر كليات اقتصاد يكاد شخيرها يسمع كل من به صمم. وهؤلاء، ليس منهم من يصحو، بل إن نومهم، كان حتى عهد قريب مطلبا لكل الذين تجاهلوا التحذير من مقدم الازمة، ولم يكونوا بحاجة لمن يفكر أو يتكلم، وغنوا لكليات الاقتصاد "ما فاز إلا النوُّم". ولكن الآن في عهد الأزمة فإن أي حكومة تقدم منفردة، ومن وراء الكواليس على بناء خطة طوارئ وتنفيذها فإنها تمارس انتحاراً سياسياً، واستهلاكاً بيناً لكل فرصها.

وربما لو كان خطأ الحكومة بتكتيك سياسي محدود ما كان هناك من هو معني بذلك للكتابة عنه، ولن يكون لفشلها أو نجاحها كبير أثر. ولكن انتحار الحكومة السياسي، في التعاطي مع الأزمة الاقتصادية، ستكون له كلف تاريخية. فهي ستبدد موارد، وتضيع زمنا كان يمكن الاستفادة منه لعمل أشياء أكثر جدوى.

والسبب الآخر الذي يغيب الحوار حول الأسس الفكرية لما تقوم به الحكومة، هو أن الحكومة تنفذ خططها وتحيكها بسرية تامة، وتتعامل مع الأزمة كما تم التعامل مع ملفات خطيرة في فترة الرواج الاقتصادي.

عجز الحكومة عن طرح تصور، وعن تقديم فهمها للأزمة ولدواعي وجود خطة طوارئ بعد أشهر من إنكار أننا نتأثر بالأزمة، مؤشر على أن الحكومة ليس لديها ما تقدمه في هذا الخصوص.

فمطلوب من وزير المالية الأكرم التفضل بعرض وجهة نظره عما يجري وطرحها للنقاش قبل عرض خطته العظيمة للطوارئ. فالنقاش بالأفكار سيكون أقل كلفة من مناقشة حركة الموارد المتطايرة.

وقد يكون هذا ما شجع لجنة نوبل لمنح جائزتها لجوزف ستيغلتز بعد تأسيسه منتدى لحوار السياسات الاقتصادية. فقد كان تبرير ستيغلتز لتأسيس هذا المنتدى أنه ضروري لتوفير الموارد والفرص، وتمكين المجتمعات من التوصل لخطط اقتصادية لها فرص نجاح حقيقية.

[email protected]