الخطاب الديني الرسمي: مراجعة استراتيجية

يقال إن الدور الديني الذي تقوم به الأنظمة السياسية العربية في التعليم والإرشاد والإعلام يؤدي ضرورات اجتماعية ودينية ويدفع كثيراً من الأخطار، وهو رأي يسوقه غير متدينين يعتبرون أنفسهم علمانيين، إضافة بالطبع إلى الطبقة الدينية التي تعمل في مؤسسات الدولة الرسمية، وكثير من "المعتدلين" الدينيين والمعادين للجماعات الدينية السياسية بمختلف أطيافها واتجاهاتها، وفي ذلك سلكت "مواجهة التطرف" باتجاه الصراع مع الجماعات الدينية، ولم يوضع إلا نادراً الخطاب الديني الرسمي والشعبي السائد موضع المراجعة والتساؤل إن كان ضرورياً أو إن كان بالفعل مفيداً في مواجهة التطرف، أو إن كان منتجاً رئيسياً للتطرف والخلل الاجتماعي والسياسي!؟اضافة اعلان
هل يؤدي بالفعل تخلي الدولة عن دورها المتبع في التعليم والأوقاف إلى تقليل أثرها الاجتماعي والإضرار بالتماسك الاجتماعي بين الدولة والمجتمع؟ هل يؤدي انسحاب الدولة من العمل الديني إلى نشوء الجماعات المتطرفة والتسلل الخارجي في التمويل والتوجيه؟ هل يؤدي إلى صراعات مع فئات اجتماعية كانت تؤيد السلطة السياسية وتدعمها من المجتمعات والعاملين في المؤسسات الدينية الرسمية؟ هل تستطيع المجتمعات أن تسد الفراغ الناشئ عن انسحاب الدولة؟ هل يمكن أن يؤدي انسحاب الدولة من دورها الديني إلى ضعف الهوية والقيم والانتماء والاغتراب الفكري والسلوكي للمجتمع؟
أما الاقتراح التقليدي والأكثر حظوة بالتأييد، فهو تطوير السياسات الدينية والخطاب الديني الرسمي على النحو الذي يحافظ على الدور الإيجابي للدولة في مواجهة التطرف وبناء قيم التسامح والاعتدال، وبذلك فإن السلطة السياسية تصلح نفسها وترمم دورها الإيجابي، كما تضمن أن يكون العمل الديني والتعليمي والإرشادي يسير في الاتجاه الصحيح المتفق مع أهداف الدولة والمجتمع، بل يمكنها أن تنشئ في سرعة وفعالية برامج تعليمية وإرشادية لبناء التسامح ومواجهة الكراهية والتطرف.
لقد أوهمت النخبة السياسية والدينية نفسها أنها تواصل سياساتها وتجاربها التاريخية والمتراكمة في العلاقة بالمجتمع والشؤون الدينية من دون أزمات اجتماعية أو سياسية أو ثقافية، وأنها تحتفظ بقاعدة اجتماعية دينية مؤيدة، بل وتحسب أنها تطورها، وتظن أنها تضمن بنفوذها وسيادتها ومواردها المالية والفنية النجاح لهذا الخيار، وتستطيع بقدراتها المؤسسية بناء مناهج ومحتوى فكري علمي جديد يضع الخطاب الديني في سياقه المرغوب فيه والمحدد بوعي مسبق، كما تستطيع السلطة تنفيذ هذه السياسة وإنجاحها بسرعة وحزم، لأنها إضافة إلى امتلاكها القدرة على ذلك فإنها تمتلك أيضاً الوعي الكافي بالأزمة والتحديات أكثر من المجتمعات، وتملك أيضاً الصلاحيات السيادية والقانونية الكافية لضمان هذه السياسات وإنجاحها،.. هكذا يوهم القائمون على السياسة والدين في عالم العرب أنفسهم ومجتمعاتهم بأنهم يراجعون المناهج التعليمية والدينية، وأنهم يحمون الدولة والمجتمعات من التطرف والإرهاب والكراهية، وأن الدولة تمارس دورها الاجتماعي المفترض والمطلوب منها، لكنها اعتقادات ليست أكثر من أوهام خطرة.
يجب التذكير دائماً، بغض النظر عن صحة أو خطأ الدور الديني للدولة، أن ذاك الدور، بما هو عمل حكومي، معرض للهدر والفشل والترهل، وأنه يتحول مع الزمن إلى عبء على نفسه وعلى الدولة والمجتمع، كما أن مقولة الخطاب الديني الرسمي المعتدل تحتاج إلى إثبات، فربما لم ينشأ بعد هذا الخطاب، ويحتاج ذلك شأن أي خطاب إلى فئة تملك الكفاءة والحماسة لمثل هذا الدور، ويكاد يغلب على العاملين في المؤسسة الرسمية أنهم يراوحون بين اللامبالاة وفقدان الرسالية في العمل وبين التطرف الديني والتعصب غير المختلف عن تعصب الجماعات المفترض أن يواجهها الخطاب الرسمي. والحال أنه ليس للخطاب الديني الرسمي من يحمله على نحو عملي ورؤيوي وتنظيري كفؤ، ليس لدى السلطة سوى موظفين كبار وصغار لا يختلفون عمن سواهم من الموظفين المحبطين وغير الراغبين في فعل شيء.