موفق ملكاوي
مع انطلاق الحرب العالمية الثانية، حذر الفيلسوف الأميركي جون ديوي من استنتاج سهل، مفاده الاعتقاد أن الديمقراطية في الولايات المتحدة الأميركية قوية جدا، وأنه لا شيء يمكن أن يزعزع بنيانها.
ديوي، نبه إلى أن هذه الصورة التبسيطية للمجتمع الديمقراطي تمثل استسلاما لوهم لذيذ يركن إلى الاستقرار والقدرة على التحمل، لكنه يسقط من حساباته التهديدات للحرية الحقيقية والمعايير الأخلاقية.
قد لا نكون اليوم شاهدين على عصر اندثار الديمقراطية العالمية، ولكننا بالتأكيد نشهد يوما بعد يوم تراجعا في مستوياتها وتمثلاتها، وولادة تعبيرات “مجاورة” منحت فهما خادعا للناس.
فبينما تشير الدراسات إلى زيادة في الحريات الاجتماعية فرضتها العولمة حول العالم، إلا أن المشاركة السياسية بحد ذاتها تقلصت كثيرا، وبنت السلطات جدرانا سميكة بينها وبين الشعوب، لتنتج “سلالات” أو “عائلات” سياسية تتداور الحكم في ما بينها.
هذا الأمر بالذات، يجعلنا نأخذ مقولات ديوي على محمل الجد، فالظروف الديمقراطية لن تستطيع أن تحافظ على نفسها تلقائيا، حتى لو كان منصوصا عليها بالدساتير التي تعتبرها البلدان المختلفة “نصوصا مقدسة”، فالتعدي على الدساتير بات اليوم سمة مشتركة بين العديد من البلدان، حتى تلك التي تميزت ذات زمن بأنها “واحات ديمقراطية”.
الخطر على الديمقراطية لا يتحدد، فقط، بالسلطة الفاسدة، أو الإدارات السيئة وحدها، بل يمكن أن يتأتى كذلك من “تشوهات جوهرية في المجتمع”، ما يتوجب معه أن نكون قلقين جدا من أي انزياحات قد تخلق واقعا مغايرا، أو ممارسات بديلة للديمقراطية قد يُظَن أنها هي.
هذا الأمر صحيح بالنسبة للأنظمة الديمقراطية، والتي اعتادت على تأطير حياتها وممارساتها ضمن أنساق تنبع من سلطة القانون وسيادته، ومن مبادئ الشفافية والمساءلة، ولكن ما هو الحال في الجانب الآخر من المعادلة، وأقصد بها المجتمعات التي غابت عنها الممارسات الديمقراطية، وعاشت في ظل أنظمة قمعية ودكتاتورية، ومحسوبيات، وفساد سياسي واقتصادي وإداري؟
لماذا لا تستطيع اللحاق بركب الديمقراطية رغم مرور حوالي 2400 سنة على الانفجار الثقافي الذي جاء به اليونانيون الذين اخترعوا الفكرة الحديثة عنا كبشر؟! مثلا، لماذا ما يزال العالم الثالث غير قادر على انتهاج الديمقراطية، رغم صلاته الوثيقة بالنظم والمجتمعات الديمقراطية؟
والمحير أيضا، أنه وبعد أن شهدنا سقوطا للعديد من الأنظمة الدكتاتورية حول العالم خلال العقد الأخير، خصوصا في المنطقة العربية، لماذا لم تنجح جميع الشعوب في بناء نموذجها الديمقراطي، أو في استلهام نموذج ملائم لها تحدده سلطة القانون وسيادته، وعجزت عن تعبيد الطريق نحو المشاركة الحقيقية في الحكم؟
الرأي السائد هو أن الديمقراطية لا يمكن أن تكون وليدة لحظة إشراق، أو لحظة انتصار للإرادة الشعبية وحدها، إذ إنها عملية يجب أن تأخذ مداها الزمني في الممارسة لكي تتجذر في الحياة اليومية والعامة.
ربما هذا الفهم هو ما يقودنا إلى أن الحرية وحدها لا يمكن لها أن تنتج ديمقراطية حقيقية، فأحيانا تكون الحرية في الأصل نوعا من التضليل، خصوصا حين تكون “حرية موجهة” في أنواع من الممارسات، ومغلقة في أنواع أخرى، وتحديدا في أوجه الرقابة والمحاسبة والمساءلة، وأيضا في المشاركة السياسية الحقيقية.
الحرية يمكن أن تكون نعمة عظيمة للمجتمعات التي تستخدمها كسلاح تدافع فيه عن حقوقها الأساسية، وعلى رأسها الديمقراطية الحقيقية المتأسسة على الرقابة والمساءلة وتداول السلطة، ويمكن كذلك أن تكون “ملهاة” أخرى، أو تضليل حين تكون “توجيهية” و”تضليلية”، وأيضا “انتقائية” تمنحها السلطة بحسب رغباتها ومصالحها.