الخليج الجديد: حسم التناقض الكبير

فترة عقدين من التحولات الاقتصادية والسياسية والثقافية شهدهما الخليج العربي لم تكن منظورة بشكل كاف في المحيط العربي، وعلينا منذ الازمة القطرية – الخليجية الراهنة ان ننتظر تغيرا ملموسا ومدركا في البنى الاستراتيجية والسياسية التقليدية التي طالما وصفت تاريخيا بالتبعية السياسية وبالاقتصادات الاستخراجية الريعية. اضافة اعلان
لقد أنجزت الدولة الخليجية على مدى العقود الثلاثة الاخيرة، تحديدا، دولة الرفاه الاجتماعي بامتياز واستطاعت بعض دول الخليج الوصول الى رأس قائمة العديد من مؤشرات التنمية البشرية في مقابل هشاشة سياسية واستراتيجية، هذه الفجوة الهائلة بين دولة الرفاه الاجتماعي التي دشنتها الفوائض النفطية وبين الهشاشة السياسية والاستراتيجية وهي مصدر التهديد الحقيقي الذي سيقرر مستقبل الخليج الجديد.
ثمة ثروات هائلة تراكمت في العقدين الماضيين، يمكن ان يشرّق الخيال العربي ويغرب بماذا يمكن ان تفعله في  تغيير وجه المنطقة، وفي المقابل تم استهلاك وهدر ثروات هائلة خلال السنوات العشر الاخيرة وتحديدا في الصراعات الاقليمية وفي التسلح، دول الخليج العربي تملك اليوم وحسب  معهد صناديق الثروة السيادية نحو 40 % من الثروات السيادية في العالم. وهناك اربعة من اكبر الصناديق السيادية العملاقة في العالم خليجية بعد الصندوقين النرويجي والصيني، وعلينا أن نتأمل حجم الاستثمارات الخليجية في الغرب ومنها على سبيل المثال الاستثمارات في المانيا حيث تقدر بعض التقارير أن الاستثمارات القطرية والاماراتية والكويتية والسعودية في المانيا تسيطر على نحو 15 - 20 من اسهم حوالي 50 شركة من كبريات الشركات الالمانية، والخليج العربي اليوم أكبر سوق لتمويل المشروعات على مستوى العالم. وتعد اليوم الافضل في البنى التحتية في العالم وتعد واحدة من أهم المناطق التى توجه إليها الاستثمارات في مجال البنية التحتية.
تعززت فكرة النظام الخليجي بعد احتلال العراق للكويت، وبعد تعاظم الدور الاميركي في المنطقة وما شهده المفهوم الاميركي للامن الخليجي من تحولات كبيرة، حيث خلق هذا الدور حالة من الانضباط السياسي والاستراتيجي خلف الولايات المتحدة حافظت على وحدة النظام  الخليجي وعززته، على وقع مصادر التهديد المحيطة وعلى رأسها الخطر الايراني؛ حيث اتسم هذا التهديد بالغموض متعدد المصادر بين الفهم الخليجي وتحديدا السعودي وبين الاستخدام والتوظيف الاميركي وصولا لإدارة ايران ذاتها لهذا التهديد، في كثير من الاحيان كانت ادارة التهديد الاقليمي تبدو في يد ايران وليس في يد الولايات المتحدة.
ان ازدياد حضور وتماسك النظام الخليجي وازدهار دولة الرفاه دفع بعض دوله الى ممارسة دور قيادي في المحيط العربي، وازداد هذا الحضور اكثر بعد الفشل الاميركي في العراق، هنا  ازداد التنافس بين مكونات هذا النظام على لعب ادوار عربية واقليمية في بيئة باتت اكثر هشاشة وتعاني من الفراغ القيادي والاستراتيجي، لكن هذه الطموحات بقيت تفتقد للشرعية في منظور اطياف واسعة من الرأي العام العربي.
بات الخليج العربي مع بدء الثورات والتحولات ساحة تضم تناقضات سياسية واستراتيجية كبيرة، في الوقت الذي ستكون القوة العربية الوحيدة المؤهلة بامكاناتها الاستراتيجية والاقتصادية للتأثير في مسارات الاحداث في اكثر من مكان، فدولة الرفاه الاجتماعي والاقتصادي تصل ذروتها نتيجة للفوائض الاقتصادية الهائلة، في الوقت الذي تتراكم اكبر ترسانات للتسلح واكبر سوق جاذب لتجارة السلاح الغربي، واكبر وجود للقوات الاجنبية في اقليم محدود، يحدث ذلك كله مع استمرار الهشاشة الاستراتيجية واستمرار فرضيات  مصادر التهديد الغامضة وتبدلها، واستمرار الهشاشة السياسية المتمثلة في ضعف بنى المشاركة والديمقراطية ومنظومات حقوق الانسان، كل ذلك يحدث في الوقت الذي تزداد جاذبية المنطقة ان تكون منطقة واعدة في التقدم والازدهار القائم على قاعدة صلبة من التحديث. إن حسم التناقض الرئيسي بين دولة الرفاة وبين الهشاشة  السياسية والاستراتيجية هو ما سيقرر مستقبل المنطقة.