الدرس التركيّ

استطاعتْ "قافلة الحرية" أنْ تُقنع العالم أكثر من أي وقت مضى بأن حصار إسرائيل الجائر المفروض على غزة، فقد مبرراته التي تزعم إسرائيل وجودها، وكل الترويج الإسرائيلي لمثل تلك المبررات غدا اليوم هشّا ولا يُقنع سوى أقلية شاذة وموتورة.

اضافة اعلان

إن السلاح الذي عرّى عدوانية إسرائيل في حصارها لغزة، دعاةُ سلام ونشطاء مدنيون أرادوا تقديم مساعدات إنسانية لأهل غزة، فواجهتهم إسرائيل بالرصاص والسلاح والقرصنة والإجرام. ولولا الموقف التركي القوي والحازم مما حدث، خاصة لمواطنيها في القافلة، لمرت، على الأغلب، الجريمة الإسرائيلية، مثل غيرها من الجرائم التي لم تتوقف يوما في تاريخ الاحتلال.

إنّ جريمة بهول حرب غزة الأخيرة وقنابلها الفوسفورية لم تفعل ربما من التأثير السياسي، باتجاه الضغط لفك الحصار عن غزة، ما فعلته قوارب الحرية مؤخرا. لماذا؟ أولا، لأنّ ضحايا إسرائيل هذه المرة نشطاء سلام مدنيون من جنسيات مختلفة، وبعضهم من حملة جائزة نوبل وبعضهم يحظى بصدقية دولية. وثانيا، لأنّ المنتقد الأساسي لإسرائيل في هذه الحادثة تركيا؛ حليفة واشنطن وعضو "الناتو" والدولة الإقليمية القوية ذات العلاقات التاريخية الراسخة مع تل أبيب، فضلاً عن أن من يتصدّر المواجهة حكومة ديمقراطية منتخبة تحظى بقبول شعبي واسع، وتقدّمُ خطابا سياسيا واقعيا يقوم أساسا على ترسيخ المنطق السلمي في المقاربات والحلول، والارتكاز على الشرعية الدولية والقانون الدولي عند مطالبة العالم وقف إسرائيل لعدوانيتها واحتلالها واعتدائها.

الاعتداء الإسرائيلي الهمجيّ على قافلة "الحرية" كان متعمدا، ومقصودا، ولم يأتِ في لحظته كرد فعل على ما زعمت إسرائيل كاذبة أنه استفزاز نشطاء القافلة. إسرائيل تعمّدت أنْ يكون اعتداؤها على القافلة مدويا ولافتا للأنظار ومحدِثا للضجيج، وكان أمامها خيارات عديدة للتعاطي مع القافلة إلا أنها اختارت عن تفكير واعٍ أسلوب العنف والهمجية. لماذا؟ لأنّ أسلوب العمل والمواجهة مع إسرائيل بالشكل الذي قدّمته "قافلة الحرية" يهزّ إسرائيل، ويخيفها ويؤذيها، ويفضح مزاعمها وأكاذيبها حين تروّج أنها "تواجه إرهابيين ومعادين للعصر والقانون الدولي"!!. ولذا أرادتْ إسرائيل أنْ تجهض مثل هذا الأسلوب في المواجهة في مهده عبر فائض الهمجية والعنف ضد النشطاء، في رسالة مزدوجة إلى كل من يفكّر بهذا الأسلوب مستقبلا وإخافته، والرسالة الثانية لأنقره مفادها أنّ هذه التعرية تثير حنق تل أبيب وتستشيط غضبها.

ربما يحتاج كلام رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، أن "العلاقات مع إسرائيل لن تعود إلى سابق عهدها أبدا، واليوم بداية عهد جديد... ولن ندير ظهورنا للفلسطينيين"... إلى بعض الوقت لاختباره سياسيا، ووضعه في سياقه المناسب ضمن ملف أزمة العلاقات بين تل أبيب وأنقره. لكنّ المهم عربيا تعلّم الدرس التركي، و"تقنين الغضب" عبر مضمون معتدل طويل النفَس ولا يستعجل النتائج، ويتوسل استثارة الرأي العام الدولي والمؤسسات الدولية، ويتوسل المواجهة الدبلوماسية التي تُعلي منطق أنّ أسلوب "الجريمة من دون عقاب" و"الدولة التي فوق القانون الدولي"، والتي تخلق التوتر والتطرف في المنطقة، يجب أنْ ينتهي ويزول.