الدولة بين المدنيّة والعلمانيّة

جاءت الورقة النقاشيّة الملكية في وقتها، حيث ستنحّي الحراكَ العقيم ضد الكتب المدرسيّة، لتتوجّه الطاقات نحو مزيد من النقاش حول طبيعة الدولة أمدنيّة أم علمانيّة. وإذ أن الورقة قالت بصريح العبارة إن الدولة المدنية ليست مرادفة للعلمانية، إلا أنها لم تلعنْ الأخيرة أو تشكّك بها أو ترمِها بالكفر والإلحاد والزندقة ومعاداة الدين، وهو أمر من المستحيل أن يصدر عن ملك عصريٍّ يمتلك عنان تفكير عصريٍّ ولغةٍ عصريّة. وبهذا الموقف تحسمُ الورقة موقف القصر على الأقل من السجال الدائر حول العلمانيّة، بحيث لا تنحاز (حاشاها) إلى اللغو والغوغائية التي تسمي العلمانيّة كفراً. وهو موقف رشيدٌ يتضمَّنُ -في رأيي- تأنيباً حضاريّاً لأولئك الذين أوغلوا في الإساءة إلى هذا المفهوم.اضافة اعلان
والآن، ما هي الدولة المدنيّة؟ هل هي فعلاً شيء مختلف عن العلمانيّة؟
في أصل المصطلح أنها عكس الدولة العسكريّة ذات الأحكام العرفيّة والتي ترتجلُ القوانين وعلى الشعب أن ينصاع. بينما تقف الدولة العلمانية على النقيض من الدولة الدينيّة. هذا التمييز ضروريٌّ لنقاشنا الراهن. ولكن كيف اختلط مفهوم المدنيّة بالعلمانيّة؟ لربما أن هذا الخلط لم يحدث إلا في منطقتنا العربيّة حيث تكوَّنَ عبر نصف قرنٍ تيّار إخوانيٌّ سلفيٌّ يطمحُ إلى الخلافة الإسلاميّة ويُنظِّر لها، ويعادي من ثمَّ كلّ ما يناهضُ فكرته، وأوَّلها نموذج الدولة العلمانية. ولذا كان على دعاة هذا التيار ووعّاظه ومنظّريه وسياسيّيه أن يلطخوا المفاهيم المضادة بالكفر. ونتيجةً للأميّة الفكرية والسياسيّة،  كان من الطبيعيّ أن ينتشر العداء للعلمانيّة على أنها (الكفر والإلحادُ والزندقة)! ولطالما أُهدِرَت دماءُ كتابٍ ومفكرين وأدباء على خلفية هذه التهمة الرهيبة! وآخرها لم يمضِ عليها من الأسابيع إلا ثلاثة، وما تزال ترجُّ بالألم والخطر بلدَنا الأردن.
ونتيجةً للسمعة السيئة التي بات عليها مصطلح العَلمانيّة، والتي اكتسبها بسبب الجهل وسوء المقصد والحرب على الحداثة، كان لابدَّ من مخرج وجدَه العَلمانيّون في مصطلح "الدولة المدنيّة"، حيث نفخوا في المصطلح من المفاهيم ما ليست فيه أساساً، ولكنه بات بديلاً مقبولاً متداوَلاً، إلى درجة أنَّ قائمةً انتخابيّة هي "معاً" قد استطاعت أن تعلنه شعاراً، وأن ينجح منها اثنان، في سابقة تاريخيّة تدعو إلى الدهشة.. وإلى درجة أن الإخوان في مصر لم يتردَّدوا في تبنيهم المفهوم على جميع الفضائيات، في أثناء الحملة الانتخابية التي فاز فيها محمد مرسي، وكذلك حزب النهضة في تونس، وكذلك أحد قادة الإخوان في الأردن.
وإذا ما كان مصطلح "المدنية" ليس بديلاً كاملاً للعلمانيّة، إذ ما يزالُ فريقٌ من العلمانيين سيّئَ الظنّ به، إلا أنه يطمحُ بحسب متبّنّيه من العلمانيين إلى أن يتّسع لمعاني الديمقراطيّة الحقيقية، لا الشكليّة، ومعاني المواطنة التي هي أساس متين لبناء مجتمع حديث وعصريّ. وإذا كان الأمر على هذا النحو، فإنَّ الورقة الملكيّة ليست رخصةً للتنصُّل من العلمانيّة التي تحتاجُ مع الوقت والجهد إلى بلورةٍ شعبيّة، كما تحتاجُ إلى النضال الحكومي والفردي للدفع باتجاه مفرداتٍ بالغة الأهمية في تقدم المجتمعات، جاءت في الورقة الملكيّة، من مثل سيادة القانون ومفاهيم المحاسبية والشفافية والمساءلة والعدل والمساواة وحقوق الإنسان وعدم استغلال الدين وحرية الأديان. وغنيٌّ عن القول، أن المصطلح يمكنُ أن يتشرّبَ، بحسبِ متبنّيه، اتجاهاتٍ دينيّةً سياسيّةً تمكّنُهم من خداع الفكرة برمّتها، والتسلّلِ من بين دفتيها البريئتين إلى حربٍ مدمّرةٍ على العقل والتجديد والحداثة وكلِّ معاني التقدّم.
دعونا لا نفقد الأمل..!