الدين والتدين

 

ثمة فرق دائم بين الدين باعتباره نصوصا وقواعد منزلة من السماء أو تراثا واجتهادات في الدين، وبين التدين باعتباره تطبيقا وفهما للدين، أو تنزيل الأحكام والنصوص في الحياة والعبادة، فلا يكاد الدين والتدين يتطابقان، ولكن التدين يحاول أن يقترب من الدين، وبذلك تتعدد صيغ وتطبيقات وحالات التدين، وكلها تزعم أنها الدين أو أنها الأقرب إلى الصواب، وهذا لا غبار عليه مادام في مجال الإدراك والوعي المسبق، ولكن المشكلة تقع حين يغيب هذا الفهم، ويخلط الناس والمتدينون والباحثون والسياسيون بين الدين والتدين فيحسبونهما شيئا واحدا.

اضافة اعلان

لا أتحدث عن الغرب وغير المسلمين فهذا أمر يصعب تصحيحه، أو يحتاج إلى زمن وجهود هي أبعد من قدرة المسلمين، ولكن ثمة أزمة مشابهة لدينا نحن المسلمين، المتدينين وغير المتدينين، في التمييز بين النصوص وبين فهمها وتطبيقها، وفي التمييز بين الإسلام وبين الخطاب الإسلامي.

أخذ مفهوم الخطاب الإسلامي المتسرب حديثا إلى الأدب العربي والإسلامي وضعا مستقرا ومقبولا، وإن لم يخضع لتعريف وبحث، ولكنه يكاد يكون مفهوما مشتركا ومقبولا في الوسط الثقافي والإعلامي العام. والخطاب بعامة كما يبدو لي من السياق الفكري العام والمتابعة الشخصية، ولا أعني التعريف العلمي المنضبط، هو منظومة التعبير التطبيقي عن فكرة أو فلسفة أو حضارة، فالخطاب الإسلامي هو التعبير التطبيقي عن الإسلام في الفكر والسياسة والاقتصاد وسائر مجالات الحياة والثقافة.

فالخطاب الإسلامي ليس هو الإسلام تماما، وإن كان ناتجا عن التحرك بالإسلام والعمل على تطبيقه وفهمه والرجوع إليه، لكنه مجهود بشري يخطئ ويصيب، ويقترب من الإسلام ويبتعد عنه، ويستلهم المرحلة والبيئة المحيطة به سلبا وإيجابا، وقد يكون متقدما ومبدعا، وقد يكون قاصرا وفاشلا، وهو ليس خطابا واحدا كما الإسلام، ولكنها خطابات عدة مختلفة حسب قراءة النصوص والتراث وفهمها، وما يؤثر في هذه القراءات من بيئة محيطة.

فالحديث عن النظام السياسي أو الاقتصادي الإسلامي أو الإعلام الإسلامي والتعليم، أو الجماعات والمؤسسات الإسلامية، والدول وأنظمة الحكم السياسية الإسلامية هو تعبير نسبي، بمعنى نسبة الخطاب إلى الإسلام، وفي الحقيقة فإنه نسبة إلى المسلمين، وليس الإسلام، فالخطاب الإسلامي هو"خطاب المسلمين"، والنظام السياسي الإسلامي، هو النظام السياسي للمسلمين، وكذا الدول  والمؤسسات والأفكار والبرامج. ونسبي أيضا بمعنى"النسبية" أي أنه يسعى للاقتراب من الصواب والعدل، لكنه حتما ليس الصواب المطلق، ولا الحالة المطلقة التي لا يجوز مراجعتها والتخلي عنها، فالنسبية أولا وإن بدأت نظرية علمية فيزيائية أطلقت عام 1905 على يد عالم الفيزياء المشهور "اينشتاين" لكنها اليوم فلسفة وقاعدة عامة تمتد إلى كل شؤون العلم والفكر والحياة تعبر عن اكتشاف حقيقة عميقة في الكون والحياة.

هذه المقولة على بساطتها ومنطقيتها يسبب غيابها عن الوعي والإدراك والتطبيق والعمل خللا كبيرا واحتقانا وأزمات بسبب الاعتقاد بأن أصحاب فكرة أو اتباع جماعة أو رأي أو موقف بأنهم "الإسلام" وعدم مظنة تعددية الفهم وتعددية الصواب أيضا، وفي الحقيقة فإنه لا يوجد صواب بشري أبدا، وهذا هو سر التقدم والإبداع. فالاعتقاد بأن ثمة ما هو أكثر صوابا هو الذي يدفع المجتمعات والناس على البحث والتفكير الدائم والعمل المتواصل والهاجس الإيجابي الذي يحفز نحو العمل والتطوير ويمنع من الركون إلى ما هو متحقق، والإيمان كذلك يزيد وينقص، فلا حد له، ولذلك يبقى المؤمن في حالة مراجعة دائمة لنفسه، فهو يتغير دائما وفي كل لحظة، وبما أنه يتغير فلا يستطيع أن يعتقد أنه الصواب، ولماذا التغير والزيادة والنقص إذن؟

[email protected]