الدين والتدين

د. هاشم غرايبة

الدين نصوص إلهية محددة، والتدين هو كسب بشري وأفعال متباينة فهما وتطبيقا لهذه النصوص.
بناء على ذلك فالمتدينون هم على درجات متفاوتة، ويحكم ذلك معياران، الأول: الالتزام بتلك النصوص، والذي يتراوح من أدنى الدرجات التي تتقارب مع غير المتدين، وارتقاء الى أعلى درجاته التي تتمثل بأن يصبح المرء خلقه القرآن الذي هو منهاج الدين المدوّن.اضافة اعلان
المعيار الثاني: فهم النصوص ومرادات التشريعات بشكل صحيح وليس فهما ظاهريا سطحيا.
لما كان من أهم مرادات النصوص الشرعية ضبط تصرفات الفرد والجماعات من أجل تحقيق السعادة لبني البشر، ومنع ظلمهم لبعضهم بعضا، وترسيخ الوئام والتعاون، فقد جاءت هذه النصوص بشكل أوامر ونواهي متكاملة محددة وواضحة، ملزمة للجميع على وجه السواء، من غير حاجة لتفسير ولا تعليل، "لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ" يفهمون تأويلها ومقاصدها، فيبينونها لمن هم أقل فهما، فيعلمون أنها مصلحة خالصة للبشر، كل منها لها حكمة، ومن ورائها مقاصد، وليست فروضا تعسفية.
لذا فالمفترض في المتدين أنه متمسك بالدين وملتزم به، ويعني ذلك أنه على درجة معينة من الالتزام بمبادئه التي تنعكس بالسلوكات الأخلاقية، وبأفعال الخير والنفع للناس، وهذا ما يدعى بالأخلاق الحميدة، التي تتدرج حتى تصل الى درجة أخلاق أتقى الناس وأعظمهم تدينا، وهو النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الدرجة العليا هي التي وصفها الله تعالى "وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ" [القلم:4].
هكذا نتوصل الى أن التدين يَسِمُ المرء بسمتين إحداهما ظاهرة للناس وأخرى خفية عليهم.
الظاهر من التدين هو التصرفات الأخلاقية في التعامل اليومي، والحرص على تقديم الخير والنفع للآخرين، والبعد عن كل ما يؤذي ويضر بالآخرين، أما السمة الخفية على الناس لأنها تكون بين العبد وربه، فهي القناعات الإيمانية التي تنعكس بشكل عبادات وطاعات وذكر ونوافل بهدف التقرب الى الله.
هذه هي الحالة المثالية للمتدين، والتي يسعى الى تحقيقها، لكن ما مدى تحقق ذلك؟.
لا شك أن النوازع الأنانية الفطرية عند البشر تتناقض مع ما أسلفنا من مواصفات، فبينما يشكل الدين الدافع الى إضعافها الى الحد الأدنى لدرجة يصل فيها بالمرء الى جعل مصلحة الغير بموازاة مصلحته الشخصية: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" [حديث صحيح: مسلم والبخاري]، تميل النزعة الفردية الى الاستئثار بالخير، وتدفع الأنانية بالمرء الطمع بلا حدود "لو كان لابن آدم واديانِ من مالٍ لابتغى ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على مَن تاب" [حديث متفق عليه].
لذلك يبقى الصراع قائما بين النزعة الإيمانية (التدين) وبين النزعة الأنانية التي تبدأ بالتشكيك في جدوى الدين وصولا الى التشكيك بوجوده أصلا.
بين هذين الدافعين يعيش البشر، قربا من الدين أو بعدا عنه، قلة هم الذين تمكنوا من التغلب على شهواتهم ونزواتهم ملتصقون به، يعضون على عروته الوثقى بالنواجذ، لكن أغلب الناس يقبعون في الجانب الأبعد.
هنالك فئة من الناس بين بين، يخشون من غضب الله فيقتربون، ثم تغلب عليهم مصالحهم ونفعهم فيبتعدون، هؤلاء هم الذين يريدون التدين المجّاني، مثل الباحثين عن العروض المغرية، كأن يتلفظ بعدد محدد من كلمات التسبيح والتهليل فتكفل له غفرانا من ذنوب عام أمضىاه يرتع في المعاصي، لذلك يحمل دائما مسبحة أو عدّادا يشبكه في إصبعه، حتى يكمل العدد المطلوب فلا يفوته هذا العرض.
وآخرون يحاولون الموازنة فيأخذون من الدين المظاهر التي لا تحملهم كلفة كالعبادات الطقوسية والذكر والأدعية، ويتركون بعض المكلفة من الدين كالزكاة والصدقات والجهاد بأنواعه ويعتقدون أن ذلك أكثر من كافٍ لدخول الجنة.
أو الذين يتاجرون بالدين، فيشترون الحسنات بسعر قليل لكي يراكموا منها رصيدا يكفي لمحو السيئات التي يجنون منها منفعة مادية، كمن يتقاضى فوائد ربوية على أمواله، أو يأكل نصيب الأنثى في الميراث، أو يأكل مال يتيم أو نصيب شريكه، ثم يذهب للحج بكلفة بسيطة مما كسب، اعتقادا منه أنه سيعود خاليا من الذنوب كيوم ولدته أمه!.
أما أخطر أنواع هؤلاء المستثمرين بالتدين فهم أصحاب الورع الكاذب، يخدعون الناس بمظهرهم في الزي واللحى، فيعتقدون فيهم الصلاح والتقى، لكنهم ينكشفون في تعاملاتهم، فتجد بعضهم يغش ويخاتل، أو يكذب وينصب على الناس، أو يعامل زوجته وأهل بيته بالسوء، أو يكونون أدوات مأجورة في يد الحكام الظالمين يدافعون عن استبدادهم وفسادهم.
هكذا رأينا كم هو التدين الحقيقي فيه صلاح للمجتمعات ونفع للناس، وكم هو ضار مفسد التدين المزيف.
يعتقد هؤلاء أنهم حينما تنطلي أفعالهم على الناس، ناجون أيضا يوم الحساب، لكن العليم الخبير لهم بالمرصاد، فعن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أَعلَمَنَّ أقوامًا من أُمَّتِي، يأتُونَ يومَ القيامةِ بِحسناتٍ أمثالِ جِبالِ تِهامَةَ بيضاءَ، فيَجعلُها اللهُ هباءً مَنثُورًا، أمَا إنَّهمْ إخوانُكمْ ومِنْ جِلدَتِكمْ، ويأخُذونَ من الليْلِ كما تَأخُذُونَ، ولكِنَّهمْ قومٌ إذا خَلَوْا بِمحارِمِ اللهِ انْتهكُوها" [الألباني:صحيح الجامع:5028].