الدين والعلم والمنطق

د. هاشم غرايبة

كثيرا ما يدخل المرء في جدل مع من يظن نفسه مثقفا بعد؛ إذ طالع بضعة كتب مترجمة، يتولد الجدل نتيجة فهم ناقص لما يعنيه العلم والدين، فبعد أن ينفث دخان تبغه في وجهك يقول لك: رجاء لا تخلط الأمور فالعلم شيء والدين شيء آخر، ولو سألته ما الذي يعنيه بذلك، سيقول: الأمران على طرفي نقيض، فالدين أساطير قديمة وخرافات غيبية، والعلم حقائق واقعة وتقدم نافع.اضافة اعلان
بداية لا بد من توضيح مختصر لدلالات بعض المصطلحات التي ترد في مثل هذه الحوارات: المنطق، والفلسفة، والعلم، والدين.
فالمنطق هو أداة عقلية فطر الإنسان عليها، وهو جملة من القواعد العامة التي يعمل طبقاً لها العقل البشري عند قيامه بعمليّة التفكير، وهي ترشد الإنسان الى تصحيح تفكيره لكنها لا تعلمه التفكير، تماما مثلما أن قواعد الصرف والنحو لا تعلم الإنسان الفصاحة والبلاغة بل تصحح نطقه.
الفلسفة هي أداة بحثية عن طبائع الأشياء وحقائقها: الموجودة منها والغيبية، في سبيل المعرفة الخالصة والحقيقة أيّاً كانت هذه المعرفة.
أما العلم فهو حقيقة عليها دليل، فهو معلومات خضعت للتجريب فكوّنت معرفة متفق على صحتها إلى أن يثبت ما ينقضها، لذا فالعلم حقيقة لكنها ليست مطلقة بل نسبية.
وأما الدين فهو جامع لكل ما سبق لكن الحقيقة فيه مطلقة، لأنها صادرة عن الخالق الذي هو منشئ العقل وجميع أدواته: العقلية (المنطق) والبحثية (الفلسفة) والتجريبية (العلم)، وسأفصل تاليا ذلك.
الدين هو منهاج متكامل الأركان، يهدف الى تعريف الإنسان بما لا يمكن أن يتوصل إليه بالأدوات العقلية، مثل الوجود وكنهه والموجد وعلة الإيجاد، واستكمال المعارف البشرية وتصحيح الخاطئ منها، وإرشاده الى المنهج القويم (الشريعة) الذي يضمن له الحياة الطيبة.
السؤال الذي يبرز هنا: بما أن الدين جاء ملبيا لاحتياجات الناس المعيشية والفكرية.. لماذا نال من الرفض أكثر بكثير من القبول؟.
الإجابة تأتي من معرفة طبيعة العقل البشري، الذي يعتمد أولا على المدركات الحسية التي تعرض عليه لتمييزها، فيقيّمها بناء على مقارنتها مع ما لديه في مخزون الذاكرة، فإن لم يجد يحيلها الى المحاكمة العقلية التي ترتكز على الشك بصحة الفرضية، والبحث عن نواقضها، فإن كانت المسألة أعقد لأنها متعلقة بأمور غيبية ذات قدرات خارقة لمفاهيم العقل، فإنها تحتاج الى محاكمات أرقى منطقيا وفلسفيا، وبالتالي قدرات عقلية لا يمتلكها إلا مميزون، لذلك قال تعالى: "شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ" (آل عمران:18)، وبذلك خص العلماء من بني البشر بمشاركة الملائكة في هذه الشهادة رغم أن الملائكة يشهدون بذلك وجوبا لأن الله غير مغيب عنهم كالبشر، لذلك فالقدرات العقلية للعالم هي التي سمت به الى مرتبة الملائكة لأنها ارتقت به من الشك الى اليقين.
وهكذا فالشك هو من أهم الأدوات العقلية للإنسان لأنها تُحصّنه من الغفلة والوهم، لذلك زود الله بها كل البشر، لكنها تَعْظمُ عند النجباء وتقل عند البلهاء.
لذلك بُني الدين على الإقناع وليس على الإكراه، واعتمد على المحاججة العقلية، فنشأ علم الكلام، الذي هو من فروع علم المنطق لكنه يختص بالفلسفة الدينية، وقد أورد القرآن الكريم عددا كبيرا من الأدلة العقلية والمنطقية والعلمية، يفهمها البشر على اختلاف قدراتهم العقلية وعلى مدى تطور معارف البشر المستقبلية، لتكون تحديا للعقول على مر العصور.
هذه هي الحكمة الإلهية.. لو أراد الله لجعلهم جميعا مؤمنين، لكنه أعطاهم العقل وأدواته، ومنحهم الحرية في استعمالها، لكنهم سيحاسبون في النهاية: من أحسن الاستعمال سيثاب، ومن أساء سيعاقب.. أليس الله بأحكم الحاكمين؟.