الرئيس ترامب والصحافة.. هل أتخيَّلُ هذا؟

الرئيس ترامب في المكتب البيضاوي هذا الأسبوع – (أرشيفية)
الرئيس ترامب في المكتب البيضاوي هذا الأسبوع – (أرشيفية)

روجر كوهين – (نيويورك تايمز) 10/2/2017

ترجمة: علاء الدين أبو زينة

الحديث عن الصحافة القائمة على الحقائق فكرة سخيفة، وعبارة تنتمي إلى الحشو. إنها مثل الحديث عن الحياة البشرية المعتمدة على الأوكسجين. ليس هناك نوع آخر؛ فالحقائق هي أساس الصحافة؛ والسعي إليها، من دون خوف أو محاباة، هو غايتها الرئيسية.اضافة اعلان
ولكن، في هذه الآونة المليئة باتهامات الرئيس ترامب شبه اليومية لصحيفة "نيويورك تايمز" بنشر "أخبار وهمية"، وحديث مستشاره كيليان كونوي عن "الحقائق البديلة"، والأكاذيب التي تتسرب مثل طاعون من أعلى منصب في البلد، فإن هناك حديثا متزايدا يظهر الآن عن الصحافة "الحقيقية" أو "القائمة على الحقائق".
وهذا منذر بالشر ولا تحمد عقباه. فالصحافة القائمة على الحقائق نقيض لأي نوع آخر؟ نقول لتأكيد الواضح، أن مواقع الأخبار الزائفة التي يغذيها الأطفال في مقدونيا لتحقيق ربح ليست صحافة. وتستخدم هذه المواقع الإلكترونية مواد ملفقة باسم الصحافة من أجل الدفع بغايات سياسية.
هناك هجوم "بضوء الغاز" على الصحفيين، والذي يهدف إلى جعلهم يشكون في سلامة عقولهم. ويصدر هذا الهجوم من البيت الأبيض ويهدف إلى جر الجميع إلى حفرة أرنب، حيث 2+2 تساوي 5.
للسرعة والقطع أثر نفسي أكبر من الحقيقة والعلم. إنهما يشكلان الخطاب. ونادرا ما يتمتع كشف زيف خبر وهمي بقوة القصة الإخبارية نفسها. يقول ترامب "س". وتنجم الجلبة! وتهرول جحافل من الصحفيين لدحض "س". وهو يمضي قدما دون أن يذكر ما قاله مرة أخرى، أو يزعم أنه لم يقله أصلاً، أو يصر على ما قاله حقاً كان "ص" وليس "س".
ويشرع الناس في التساؤل: هل أنا أتخيل هذا؟ ويشعرون بأن ثمة آلية جهنمية ترسخت وتقوم بسحبهم في اتجاه الهاوية. فالرئيس نقطة مرجعية؛ وإذا كذب، فإن الكذب ينساب عميقا إلى داخل الثقافة. ويبدأ الأميركيون في السؤال: هل كنا قادرين في أي وقت مضى على طرد مثل هؤلاء من السلطة؟ ما الذي هم قادرون عليه؟
في الآونة الأخيرة، أرسل المؤرخ البريطاني سايمون شاما تغريدة على تويتر، تقول: "اللامبالاة تجاه التمييز بين الحقيقة والأكاذيب هي الشرط المسبق للفاشية. عندما تفنى الحقيقة، فكذلك تفعل الحرية".
كان حجم تدنيس الأبيض في مجرد ثلاثة أسابيع مذهلاً. على مدى عقود كان أمن العالم يرتكز على كلمة أميركا. وكانت الكلمات التي تصدر من المكتب البيضاوي جليلة. وكانت كلمة أميركا، كما يعبر عنها الرئيس، هي الأساس الذي بنت عليه القارة الأوروبية والحلفاء مثل اليابانيين أمنهم لفترة ما بعد الحرب.
الآن، تبدو الكلمات التي تسقط من شفتي ترامب، أو التي تذهب –غالباً بأخطاء إملائية- إلى تغذية "تويتر"، مبتذلة أو خاطئة أو لا معنى لها. إنه غاضب على "نوردستروم"، بحق الله، لأن سلسلة المتاجر تخلت عن خط ملابس ابنته إيفانكا! هذا هو موضع قلق زعيم العالم الحر!
غير مسبوق! لقد أذهلني كيف وصف باول هورنر، الذي يدير عملية أخبار زائفة كبيرة على "فيسبوك"، هذا الوقت الذي نعيشه، حين كتب في صحيفة "الواشنطن بوست": "جماعة الصدق والنزاهة هم الأكثر حمقاقة بالتأكيد. إنه يستمرون فقط في تدوير الأشياء نفسها. لم يعد أحد يتفحص الحقيقة بعد الآن –أعني، هذه الطريقة التي انتُخب بها ترامب. لقد قال فقط أي شيء يريد قوله، وصدق الناس كل شيء، وعندما تبين أن الأشياء التي قالها حقيقية، لم يأبه الناس لأنهم كانوا قد قبلوا بها مُسبقاً. إنه شيء مخيف حقاً. لم يسبق وأن رأيتُ شيئاً كهذا قط"!
لم يسبق لنا وأن شاهدنا شيئا كهذا لأنه عندما يكون مئات الملايين من الأميركيين متصلين بالشبكة، فإن أي شخص، سواء كان جاهلاً أم لا، يستطيع أن ينشر ما يحلو له بمجرد نقرة.
كان هورنر نفسه قد جاء، خلال الحملة الانتخابية، بالقصة الإخبارية الزائفة التي قالت أن محتجاً في حشد لترامب كان قد تلقى مبلغ 3.500 دولار. وانتشرت القصة مثل النار في الهشيم. كما تلقينا أخبارا زائفة عن كيف دفعت هيلاري كلينتون مبلغ 62 مليون دولار لكل من بيونسي وجاي زيد ليقدما عرضا في كليفلاند، وكيف أن خضر خان، والد الجندي الأميركي المسلم الذي قتل في العراق، كان عميلا لجماعة الإخوان المسلمين. أخبار زائفة –مذهلة، صادمة!- حولت وجهة الانتخابات.
الآن، لدينا الرئيس ترامب الذي يقترح أن الأخبار الزائفة حقاً هي استطلاعات الرأي السلبية عنه –إلى جانب الـ(سي. أن. أن)، ونيويورك تايمز، والواشنطن بوست، ومنظمات الأخبار الأخرى التي تقوم بعملها: جلب سلطته إلى المحاسبة والوقوف شاهدة على أفعاله. ويعتقد ستيفن بانون، رجل ترامب في الظلال، أن الإعلام "ينبغي أن يبقي فمه مغلقاً". لكننا لن نفعل.
في بعض الأحيان، أحاول أن أتخيل كيف يمكن أن تكون لحظة حريق "رايخستاغ" ترامب. في شباط (فبراير) من العام 1933، خلال أسابيع قليلة بعد أن أصبح هتلر مستشاراً، شب حريق في البرلمان في برلين –في حريق متعمد ما يزال أصله غير معروف. وفي مقال نشرته حديثاً مجلة "نيويوركر" للكاتب جورج بروتشينك، اقتبس المؤلف ما قاله الكاتب النمساوي ستيفان تسفايغ عن ردة فعل هتلر على ذلك الحادث: "بضربة واحدة تحطمت كل العدالة في ألمانيا".
من رئيس يحتقر الصحافة، ويهين السلطة القضائية، والذي لا وقت لديه للمثل أو الحرية أو الديمقراطية الأميركية، والذي يبدو ميله إلى العنف واضحاً، ماذا سيكون رد الفعل على حريق في الرايخستاغ بقناع أميركي –فلنقل عملاً كبيراً من أعمال الإرهاب؟
يمكننا أن نرتجف فقط لمجرد تخيل الفكرة.
إن الحقائق تهم. السلطة القضائية الاتحادية تدافع. والإدارة تتسرب، والصحافة (دون حاجة إلى تأكيد) لم تكن أكثر أهمية مما هي الآن في أي وقت مضى. والحقيقة لم تختفِ بعد، لكن إنكار حقيقة أنها تحت الحصار ستكون أشبه باستدعاء الكارثة.

*نشر هذا المقال تحت عنوان:
 Am I Imagining This?